دعاني الصديق الأستاذ الدكتور محمد الصالح الربدي للاطلاع على مقالات كتبها الأديب والروائي الأستاذ موسى النقيدان في موقع عاجل، وهي حلقات من وصف من الذاكرة لحال مجتمع مدينة بريدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث لم تتسارع بعد حركة التنمية والتغيير العمراني، ولم تتبدل نمطية المعيشة اليومية للمدينة، ويوم كان معظم سكان المدينة لا يحتاجون لسيارة، إلا عند السفر، كانت بريدة مدينة في ثوب قرية، فتنوع الحياة وصروف نشاطات الناس وتجاريتهم وصناعيتهم تؤهلها بين المدن وترابط أطرافها وعفوية أهلها وبساطتهم وتمازجهم وتجعلها قرية كبيرة.
الأستاذ موسى النقيدان تناول في ذكرياته أحداثاً وشخصيات لا تنسى، وإن لم يسمها، وفصل في وصف حال بريدة وأسواقها وحاراتها ونشاطات الناس اليومية، ومن عاصر الفترة التي تحدث عنها الأستاذ موسى، لا يسعه إلا أن يتمثل الدور الذي كان له في ذلك الوسط، وأنا واحد من أولئك الذي عايشوا الفترة، وأجد نفسي حاضراً في تلك الأماكن والأحداث، ومع أن الأستاذ موسى أبحر أعمق مما أذكر في استجلاب الذكريات، إلا أن كثيراً مما ذكر شدني لذلك الزمن وأوقد في نفسي حنيناً لتك الومضات في ذاكرتي، منها الطريف المضحك والمؤلم المبكي، وكثير منها كان مجرد أحداث يومية، ولكنها عالقة في الذهن لخصوصيتها وخصوصية الناس الذين كانوا فيها، كان والدي - رحمه الله - مولع بصيد الطيور وخصوصاً (القميري) وعندما يأتي موسم هجرة الطيور، لا يمنعه أي مانع عن الخروج في (كشتات) الجمعه خصوصاً لمنطقة (الدغمانيات) للصيد هناك، ولكنه - رحمه الله - عندما نعود لبريدة لا يترك تلك الهواية، فبعد صلاة كل فجر، أخرج معه في سيارته (اللانروفر) لصيد الطيور في ضاحية (القاع البارد) وهو أحد أحياء بريدة الآن، كانت مجموعة من المزارع الصغيرة وكثيراً من شجر الأثل، وكان - رحمه الله - يمتاز بحس ومهارة في تدوير السيارة لتناسب المكان المناسب للرمي، وعندما تنفض بندقية (الشوزن أم خمس) طلقتها تتساقط القميري والتي عادة ما تكون أكثر من واحدة، وكان دوري أن أنزل من السيارة والتقط الطيور الميتة وأذكي منها التي لم تمت بعد، وكنا نعود للبيت عند الساعة السابعة، حيث أستحم وأذهب للمدرسة، كانت مدرستي الفيصلية خلف المنزل الملاصق لمنزلنا. وعندما أكون متأخراً أجد الأستاذ المرحوم مدير المدرسة فهد الجربوع عند الباب، حيث يذهب معي للفصل ويومئ للمدرس برأسه حتى لا أعاقب على التأخر، فهو يعلم سبب تأخري..
من ذكرياتي في بريدة، كان في الجردة وهي ساحة التجارة في بريدة رجل يبيع أدوية شعبية وبعض المستلزمات الشخصية في صورة بسطة على الأرض، وكان معظم زبائنه من البادية، وأذكر في أحد المرات كنت واقفاً عنده وهو يجادل رجلاً من البادية يريد أن يشتري (علبة فكس)، فالبائع يقول إن سعرها ريالان، والمشتري يريد ضمان أنها مفيدة كعلاج، فيقول البائع: خذها بلا ضمان بريالين وبخمسة ريالات مع الضمان - الضمان هو رد قيمتها على شرط أن ترجع بحالها لم تستعمل - فما كان من المشتري إلا أن اشتراها مع الضمان، هذا الموقف تعلمت منه أن الضمان هو تكلفة على المشتري وتعهد مشروط بما لا يمكن الالتزام به، فلم أشترِ ضماناً على بضاعة قط. ومن المواقف الطريفة أنه عندما بدأ بث تلفزيون القصيم، كان أول المسلسلات هو (سر الغريب)، وكان مسلسل يحكي قصة قديمة في التاريخ، فكانت ملابسهم عمائم وسراويل واسعة وأردية، في تلك السنة أتى حجاج من أفغانستان عن طريق البر مروراً ببريدة، وكنت إذ ذاك أدرس في متوسطة القادسية، وعندما خرجنا من المدرسة، رأينا عشرات الرجال والنساء بملابس تشابه ملابس الممثلين في المسلسل، فتوقعت أن هناك مسلسلاً تاريخياً يصور في بريدة وتحمست للحديث مع الممثلين. وكان المشهد مضحكاً وأنا أحاور أحدهم والذي توقعت أنه البطل لوسامته الظاهرة، وحيث لم يفهم ما أقول وأنا متحمس وعلامات الفضول بادية علي، نادى البقية فاجتمع حولي معظمهم وأصبحت أنا الفرجة لهم وكلهم يضحكون ويتكلمون كلاماً لا أفهمه، أدركت بعدها كم أنا ساذج وبسيط.
أشكر الأستاذ الأديب موسى النقيدان، على ذلك التوثيق الجميل والتفصيلي لحياة بريدة، فربما يكون مادة جيدة في المستقبل لروايات وقصص تكتب عن تلك الفترة، وأدعو من لديهم المهارة والذاكرة أن يكتبوا مثل ما كتب عن قراهم ومدنهم، فنحن بحاجة لهذا التوثيق لحياتنا.