تتميّز مرحلتنا التي نمر بها بصفة التحوُّل إزاء كثير من القضايا، فهي مرحلة إصلاحية دشّن فيها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، مشاريع إصلاح التعليم والقضاء والاقتصاد، مع رفع سقف الحريات في الإعلام وما يشمله من شفافية ومكاشفة وتعارض وجهات النظر..
مرحلة التحوُّل هذه هي مرحلة سيولة تختلط فيها أنماط التفكير والممارسات الاجتماعية، يكون فيها القديم جنباً إلى جنب مع الجديد.. أحياناً يصادمه، أحياناً يحايده وأحياناً يتآلف معه، حتى يصل الأمر إلى تركيبة جديدة مستقرة..
إذا رجعنا لما قبل هذه المرحلة من منظور علاقة الدولة والمجتمع، نجد أنّ الحكومة السعودية كانت توجِّه التغيرات الاجتماعية المصاحبة للتنمية والتحديث بسياسة الهدوء وتجنّب التصادم. والهدوء يشمل محاولة التوسُّط في التطوُّر الاجتماعي بين القديم والجديد (الأصالة والحداثة)، عبر الميل لأحدهما دون إهمال الآخر، وإعطاء أحدهما فسحة أكبر لمجالات معيّنة مقابل إعطاء الثاني مجالات أخرى. مثلاً، في اختلاف وجهات النظر بين رؤية المؤسسة الدينية التقليدية وبين الرؤية التكنوقراطية التحديثية، مُنحت رؤية الأولى أغلب المجال التعليمي والاجتماعي، بينما حصلت رؤية الثانية على أغلب المجال الاقتصادي والإعلامي، فيما ظلّت بعض المجالات كالثقافية مساحة تنافس مفتوحة نسبياً للطرفين..
هذا المنهج التوفيقي نجح على مدى العقود الماضية، ورغم أنه منهج تصالحي محبّب للنفس يريد تحقيق المصلحة العامة، إلا أنه قد يؤجل بعض المشكلات لأنه يحمل في طياته ستر الخلافات التي لا بد أن تظهر يوماً ما للعلن، وتهدئة التوترات التي لا بد أن تقع. ومن هنا بدأ منذ بضع سنوات الحديث عن الإصلاح بما يتضمّنه من شفافية ومكاشفة، فكان محتماً فتح تلك المؤجلات.. ومن هنا بادر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في استباق الأحداث، ودشّن مشاريعه الإصلاحية وبرامجه الحوارية.
وفي هذا السياق بدأت بعض الأصوات التجديدية للخطاب الديني تعلن آراءً عقلية (الدينية والتكنوقراطية والحداثية)، مطوّرة الآراء النقلية القديمة لبعض كبار مشايخنا الأجلاّء، فيما كان في السابق من المحرّمات. هذا تطوُّر بالغ الأهمية يتماشي مع مرحلة التحوُّل التي تحدث في المجتمع السعودي، ويمثل بداية تطوُّر جديد يدخل فيه العقل مشاركاً للنقل. ولأنّ العقل متحرّك على خلاف النقل الساكن، كان لا بد أن تحتدم الساحة بالحراك الثقافي والاجتماعي وبالأفكار المختلفة..
فظهرت وجهات نظر متنوّعة بما فيها فتاوى بعض المشايخ التقليديين، وامتد إلى إبداء وجهة نظر مختلفة عن رأي أعلى هيئة دينية للفتيا (اللجنة الدائمة للإفتاء) في مسألة الفتوى عن «الكاشيرات»، بل ظهر أعضاء من هذه اللجنة تعلن احترامها للمخالفين. وبدلاً من مقولة «لحوم العلماء مسمومة» ظهرت مقولة «الفتوى غير ملزمة»، أو باعتبارها وجهة نظر علماء دين كبار يمثلون أهم وجهات النظر الفقهية ولكنها ليست الوحيدة. أو أنها فتوى مقصورة على السائل، فهي خاصة وليست عامة.
هذا انتقال تاريخي في مجتمعنا ننتقل به من مرحلة الإلزام إلى مرحلة الاختيار.. فأغلب الحوار المحتدم خلال الأسبوعين الماضيين من جميع الأطراف، كان يدور حول الآراء وليس حول مصادرة الآراء، وقلّما سمعنا صوتاً مهماً يطالب بإسكات المخالفين لكبار العلماء، وتلاشت فتاوى التكفير إلاّ في النزر اليسير المتبقي بما قبل مرحلة الإصلاح..
هذا النزر القليل لا يعني أنه ليس مهماً وليس خطيراً، مثلما أعلن الدكتور يوسف الأحمد عن رأيه بلغة عنيفة تشمل التكفير والحكم بالردة والقتل على مخالفيه. وهذا - وفقاً لجريدة الحياة - ما دعا أحد العلماء (فضّل عدم ذكر اسمه)، أن يؤكد أنّ ما يروّجه الدكتور يوسف الأحمد من آراء تخص فتوى منع النساء من العمل «كاشيرات»، يأتي ضمن إثارة الفتنة وقال: «ترويج المرء لرأي قابل للنقاش يراه ليس أمراً مقبوحاً، ولكن المثير للقلق هو هذا الأسلوب العنيف الذي ينتهجه هذا الشخص ومن معه في رمي كل من خالفه بالشرر وإثارة الفتنة، وتحميل أقوال العلماء ما لا تحتمل..
يمكن القول إن تلك هي من السلبيات الضرورية للإصلاح التي لا يمكن تفاديها، والخطورة هنا أنّ ثمة خلط في الفهم بين التنوُّع في الآراء التي تتبنّاها المرحلة الإصلاحية، وبين نسف الآراء المخالفة والتحريض على نسف أصحابها جسدياً. هنا نخرج من حيّز الفكر إلى حيّز الأمن. وإذا كنا نطالب بعدم تدخل الأجهزة الأمنية في أفكارنا وحواراتنا، فقد ينقلب موقفنا ونضطر بمطالبتها بالتدخل من أجل حمايتنا من أولئك الذين لا يكتفون بمعارضة أفكارنا فقط، بل يعارضون وجودنا الفيزيقي ويحرضون على تصفيتنا جسدياً..
لقد تم الحديث كثيراً في السعودية عن «الأمن الفكري»، وعقد مؤتمرات وندوات وأجهزة حكومية. وقال البعض إنّ الأمن الفكري هو حماية أفكار المجتمع من الدخيل عليها، فيما قال البعض منهم أنه حماية الفكر في التعبير بحرية دون خشية المحرضين وحق المفكر في أن يطرح نظرياته بأمن دون خوف. هذا الاختلاف بين زاويتي النظر يمثل اختلافاً بين مرحلتين: مرحلة ثبات ومرحلة تغير..
ولأننا في مرحلة تحوُّل، فإنّ الواقع يُظهر أنّ «الأمن الفكري» ينبغي أن يكون حماية للأفكار وليس حماية ضد الأفكار أو التجمّد على الأفكار.. وهذا الواقع الجديد يمثل مرحلة تاريخية تتطلّب من الأطراف المتحاورة أن تمتلك وعياً تاريخياً بدورها. فالمؤسسات التقليدية التي كانت فيما مضى تعتمد على صياغة تصرفات الناس من خلال الأوامر والنواهي، وتستحوذ على عقول الناس بمنطق النقل لا العقل، بالنظرية لا الواقع، تجد نفسها أمام الواقع الجديد وقوة العقل، ولكي لا تخرج عن الواقع والعقل، تجد أنّ الاختيار لا الأمر والعقل لا النقل هو ما يناسب المجتمع الحالي ومصالح الأمة.. فمجتمع المدن الذي نعيشه هو عقلاني واقعي يتطلّب عقليات متحركة منفتحة تناقش وتحاور وتضع الحلول الواقعية الجديدة للأزمات الجديدة..
مرحلتنا الحالية تطوّرت وامتدت شفافيتها ومكاشفتها إلى مساحات جديدة، وسقف الحريات يرتفع مع مرور الوقت، وهذا بطبيعة الحال يعني ثراء وتنوعاً لوجهات النظر ودفع عملية التطور والتنمية، وينبغي أن لا نخشى من السلبيات الطبيعية المصاحبة للإيجابيات الكثيرة لكن علينا أيضاً أن ننتبه لمن يتجاوز في طرحه حقوق الآخرين بأنّ هناك تشريعات وأنظمة يجب تطبيقها لحماية الأفكار وأصحاب الأفكار..