لطالما آمنت بأن حياة كل منا عبارة عن دائرة مملة تتكرر عبراً.. ولادة وصراخ.. طفولة وطلبات.. مراهقة ولف بالشوارع.. دراسة مع بعض التجارب الشقية.. وظيفة ومال.. زواج ومشاجرات.. أطفال ومسؤولية.. تقاعد وفراغ.. قبر موحش!؟! ثم أسلم عصا سباق التتابع لابني ليركض في نفس المضمار!
يقول التاريخ أن هذه الدائرة بدأت من آدم... وورّثها لنا واحداً بعد الآخر! وكل من حاول أن يتخطى هذه الدائرة ويرسم خطاً مستقيماً، فالويل لهذا الشاذ المجنون الأرعن المارق عن العادات والتقاليد و.. و.. تعرفون باقي الشتائم!
كنت أعتقد أني أنا الآخر سأتسكع في هذه الدائرة حتى أسلّم عصا التتابع لمغبون من بعدي.. حتى جاء ذلك اليوم.. حينما ألحت علي أختي للذهاب إلى العمرة، وأختي -من وجهة نظري- من ذلك النوع المثالي الذي لا يحب الخروج عن الدائرة نهائياً، فذهبت مرغماً ثقيل النفس لأؤدي دوري كمحرم من العيار الثقيل الظل في هذه الرحلة ذات الثلاثة أيام..
بعد صلاة العشاء في الحرم المكي، تلفتّ وإذا بشاب أشقر، طويل القامة، عيناه بلون البحر، لا تخطئ عيناك أوروبيته من النظرة الأولى..
تسربل بذلك الإحرام، ليعطيه شكلاً لم تألفه عيني، إذ نادراً ما ترى أوروبياً مسلماً بهذه الصورة التي رأيت، إذ بدا مظهره في الإحرام كأنه صورة صغيرة ركب عليها برواز كبير غليظ لا يناسقها بالحجم ولا بالشكل، ولكن سبحان من استجاب لدعاء إبراهيم: «واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم...»، ابتسم في وجهي فرددت ابتسامته بمثلها أو بأحسن منها، وهممت بسؤاله بلغة إنجليزية ذات «راء» أمريكية أعكس فيها فشخرتي واستعراضي بثقافتي الأمريكية، إلا أنه فاجئني بقوله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أخي...
كان يتحدث بعربية فصحى تعرضت حروفها للكسر والعجمة من لسانه..
وعليكم السلام يا أخي...
من أي بلاد الله أنت يا أخي؟
- أنا من الكويت وهل تعرفها؟ وأنت من أين؟
أحسست بأني في مسلسل مدبلج وأنا أتحدث العربية الفصحى لأول مرة في حياتي، ففي مشوار حياتي كلها كنت أتحدث بلهجة خليجية، وقد ألجأ من باب المداعبة للتحدث بلهجة عراقية، مصرية، لبنانية.. لكن أن أتحدث العربية الفصحى، فقد كان غريباً بعض الشيء..
- أنا من هولندا، ولا أعرف عن الكويت غير رسمها على الخريطة وإنكم محظوظون لأنكم بلد عربي ومسلم..
- وأنتم محظوظون في هولندا، لأنكم تتسممون بالأفيون والحشيش في مقاهيكم، وتحت أعين الشرطة!
ابتسم، وهو يرد على دعابتي بعربيته الفصحى:
- وأنتم محظوظون لاتصالكم بسر الخلود.. وأفيون السعادة الذي يخرجكم عن الدائرة!
أي دائرة تعني؟
- الدائرة التي يعيشها الإنسان: ولادة.. دراسة.. عمل.. زواج ثم فناء!!
سبحان الله هذا الأشقر الأحمر، الذي جاء من آخر أقاصي أوروبا يتحدث بنفس لغة تفكيري! ويعرف الدائرة، أطرقت قليلاً وقلت له:
ما الذي يخرجني عن الدائرة؟ فكلنا محكومون بها!
- سر الخروج عن الدائرة أنتم من يملكه، وخروجك عن الدائرة يجب أن يكون ضمن الدائرة!!
- لم أفهم شيئاً من فلسفتك، كيف أخرج من الدائرة وأنا أمشي فيها؟
- الفرق بيننا وبينكم بأننا نحتاج إلى أن نبحث ونقرأ ونقارن بين الفلسفات والديانات حتى نصل إلى الحقيقة، أما أنتم فمحظوظون لأنكم ورثتموها جاهزة بكل يسر.. ولعل تلك الوراثة هي التي منعتكم من التفكير فيها..).
هذا النص جزء من رسالة طويلة بعثها لي أحد القراء الأعزاء على بريدي الإلكتروني ورغب نشرها كاملة، ولطولها أعتذر للأخ العزيز مكتفياً بما ورد أعلاه وأعتقد أن الرسالة واضحة من خلال هذا المشهد الحواري الرائع في بيت الله الحرام، شاكراً للقراء الكرام التواصل ومثمناً مثل هذه الرسائل القيمة وكل عام وأنتم جميعاً بخير وإلى لقاء والسلام.