نقف اليوم على سيرة عَلَم من أعلام الإسلام وفارس من فرسانها الأشاوس وزاهد من زهّادها، كان فتى يافعاً مليئاً بالحيوية والنشاط مدللاً يتقلّب بين الخمائل والحرير، بهيّ الطلعة جميل البهجة، يشم عبق العطر من بين جنباته إذا مرّ بحي يعرف مروره من رائحة عطره، كلامه مسموع وإغضابه ممنوع، حيزت له الدنيا بحذافيرها، كان وحيد أمه ليس لها إلاّ هذا الفتى، فأغدقت عليه نعيم الدنيا ومتعها، ولكنها لم تعلم بأنّ كل هذا الترف والنعيم سيزهد فيه هذا الفتى المدلّل، لأنها التفتت إلى المظاهر وزهدت في تربية البواطن، فالظاهر يفنى والباطن إذا تربى على الكمال يبقى ويسمو، فشاءت القدرة الإلهية بأن يسري نور الإسلام في قلب هذا الفتى المنعم، لنرى من خلال هذا التقلُّب في الحال قدرة الكبير المتعال مالك القلوب ذي القوة والجبروت، يقلبها من حال إلى حال... إننا إذْ نذكر اسمه لننهض ونقف على أمشاط أقدامنا تقديراً وإجلالاً لهذا الصحابي الجليل، إنه الفتى القرشي (مصعب بن عمير) أول سفير في الإسلام ...
لقد استنهض هذا القرشي الهمم حين سمع برسول الله في دار الأرقم فتوجّه صوبه ليسمع القرآن الكريم ويتعرّف على هذا السراج المنير، فلما دخل ورأى النبي الأكرم وسمع منه كلام الله تعالى حتى سرى في قلبه النور المبين، ليضيء قلباً كساه ظلام الشرك والأوثان، فبسط يديه مبايعاً وإلى الإسلام مسارعاً، فتهلل وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم فرحاً وسروراً بإسلام هذا الفتى الشجاع، ليكون له مع الإسلام موعد، وليسطر له التاريخ بطولات وملاحم كان لها دور عظيم في تحويل دفّة سفينة الإسلام إلى علياء القمم.
لقد كان لمصعب دور مهم في تحويل دفّة سفينة الإسلام إلى علياء القمم، فهذه ليست مبالغة في وصفه أو مفاكهة في سيرته... نعم لقد كان له الفضل الكبير بعد الله تعالى في إسلام الأنصار الذين كان لهم شرف نصرته صلى الله عليه وسلم، فهم الذين آووه وعزروه ونصروه وفدوه بأرواحهم ومهجهم، وهم من بنى معه صلى الله عليه وسلم أول لبنة في بناء الدولة الإسلامية لتشرق أنوارها في أصقاع الأرض إيذاناً ببداية عصر جديد.. عصر التقدم والبناء.. عصر العدالة والرحمة، بعدما كانت البشرية ترزح تحت نير الظلم والطغيان، لتنتقل بعدها من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن... فكيف لعب هذا الدور مصعب بن عمير؟
لقد وقع اختيار النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم على مصعب ليتولّى منصب أول سفير في الإسلام، ليدعو سادة المدينة إلى الدخول في هذا الدِّين العظيم وعلى رأسهم الأوس والخزرج، فلقد كان اختيار النبي له مع حداثة سنّه لما رأى فيه من رجاحة العقل ودماثة الخلق - وهاتان الخصلتان يجب توفرهما فيمن نصب سفيراً لتمثيل أمته وشعبه -، فلقد ضرب مصعب أروع الأمثال في قيامه بهذه المهمة الصعبة ليكون نبراساً يحتذى به لكل سفير (وذلك بأن يكونوا حكماء في قراراتهم سمحاء في أخلاقهم ليعكسوا الصورة المشرقة لدينهم وشعوبهم، وقد تجلّت هذه في حكمة مصعب وسمو أخلاقه حين أقنع سادات المدينة للدخول في الإسلام فقد كان ذاك. فيا ليت سفراءنا يقتدون بسفير الإسلام مصعب وبما فعله ليكونوا واجهة حسنة لأمتهم وشعوبهم، فمصعب مدرسة لكم فانهلوا من معينها الغزير النمير لتنالوا الشرف الكبير فتسعدوا وتسعد بكم أمتكم). وهكذا حتى دخل أهل المدينة في دين الله قاطبة والفضل يعود لله تعالى ثم لحكمة وأخلاق هذا السفير المخضرم.
نعم هذه هي المدرسة المحمدية التي تربّى فيها مصعب بن عمير، فكان بحق رجل المهمات الصعبة الذي يُعتمد عليه في الشدائد والمدلهمّات.
فلتسعد روحك يا مصعب في عليين مع الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، سلام على روحك الطاهرة وجزاك الله خيراً عن الإسلام والمسلمين.
M882010@hotmail.com