فإن الحديث في الأسطر التالية سيدور حول مشاهدَ عظيمةٍ في الحج قريب بعضها من بعض، ألا وهي مشاهد الاضطرار والافتقار إلى الله، والتذلل والانكسار بين يديه، ومشهد انتظار الفرج منه - تبارك وتعالى -، فالحاج وهو متلبس بتلك الشعيرة العظيمة يشعر بأنه مضطر إلى الله مفتقر إليه، خائف منه، راجٍ ما عنده، منكسرٌ بين يديه.
وهذا هو لب العبادة، ومقصودها الأعظم؛ فالافتقار إلى الله دون من سواه هو عينُ الغنى، والتذلل، والانطراح بين يديه هو العزُّ الذي لا يدانيه عز؛ فالله - تبارك وتعالى - يحب المنكسرة قلوبهم فيدنيهم، ويقرب منهم، بل هو - عزوجل - عند المنكسرة قلوبهم من أجله.
أخرج الإمام أحمد في الزهد عن عمرانَ بنِ موسى القصيرِ قال : قال موسى -عليه السلام-:»يا ربي أين أبغيك؟ قال : ابغني عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك لا نهدموا».
ثم إن حاجة الإنسان، بل ضرورته إلى ربه لا تدانيها حاجة أو ضرورة؛ فإن في القلب جوعةً، وفقراً ذاتياً، وفاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله - عزوجل -، وكلما اشتدت حاجة الإنسان إلى ربه، وعظمت ضرورته إليه، واشتد تحريه لإجابة دعائه - جاءه الفرج، وأقبل عليه اليسر؛ فانتظار الفرج من أجل العبوديات وأعظمها.
ما ضاق بالمرء أمر فاستعد له
عبادةَ الله إلا جاءه الفرجُ
ولا أناخ بباب الله ذو ألمٍ
إلا تزحزح عنه الهم والحرجُ
قال ابن القيم - رحمه الله -:»انتظار روح الفرج يعني راحته، ونسيمه، ولذته؛ فإن انتظاره، ومطالعته، وترقبه يخفف حمل المشقة لا سيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوْح الفرج، ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل».
وهذه المعاني العظيمة تُدرك بالحج، وينالها الحاج في كثير من المواطن والمناسك؛ فالحاج - على سبيل المثال - إذا رأى جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمار، أو في الطرقات ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال نسكه، وربما أدركه الضجر، وبلغت منه السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا، وما هي إلا مدة يسيرة ثم تنزاح تلك الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
وفي هذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج؛ فلا ييأسُ بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة، ومهما استبد الألم سواء في حاله أو حال أمته، بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه، ولطفه، وقرب غِيَره.
ولا بعد في خير الله وفي الله مطمع
ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
ولئن كانت تلك المعاني - أعني الافتقار، والتذلل، وانتظار الفرج - لئن كانت ظاهرةً مستفادةً من كثير من مناسك الحج - فلهي أشد ظهوراً في نسك السعي بين الصفا والمروة؛ حيث يتجلى هذا الأمر؛ إذ هو الحكمة الخاصة للسعي؛ فالحكمة العامة من السعي إقامة ذكر الله.
أما الخاصة فهو حصول هذا المعنى العظيمِ، والسرِّ البديعِ - كما أشار إلى ذلك العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -، قال - عليه رحمة الله - في تفسيره: «أما حكمة السعي فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءاً فيه ماء.
وفي الحديث الصحيح المذكور: «وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوَّا - أو قال يتلبط - فانطلقت؛ كراهية أن تنظر إليه؛ فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؛ فلم تَرَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فذلك سعي الناس بينهما» الحديث، وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري - رحمه الله - في صحيحه.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الصحيح: «فذلك سعي الناس بينهما» فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة؛ لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها؛ لأن ثمرة كبدها وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوّى من العطش في بلد لا ماء فيه ولا أنيس، وهي - أيضاً - في جوع وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها - جل وعلا - وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل؛ فإذا لم تر شيئاً جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحداً؛ فأُمر الناسُ بالسعي بين الصفا والمروة؛ ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيِّق، والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لا يضيعه ولا يخيب دعاؤه، وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليه حديث صحيح» انتهى كلام العلامة الشنقيطي - رحمه الله -.
فيا أيها الحاج: استحضر هذا الدرسَ العظيم، والحكمة البالغة؛ فما دمت مطيعاً لله، مفتقراً إليه، ملازماً دعاءه فلا تيأسن من لطفه؛ فإذا أَلَمَّت بك مصيبة، أو نزل بك بلاء، أو ركبك دين، أو لازمك مرض سواء في نفس أو ولدك أو من تحب - فانتظر فرج ربك - جل وعلا-، وإذا رأيت أمتك تسام الخسف، ويتطاول عليها الأعداء، ورأيت إخوانك المسلمين وهم يعانون الأمرَّين، فلا تركن إلى خاطر اليأس، ولا تظننَّ أن الليل ليس له آخر، بل كن متفائلاً حسن الظن؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين، وهكذا يفيد الحاج الدرس العظيم من الحج، ألا وهو الافتقار إلى الله - تبارك وتعالى - والتذلل والانكسار بين يديه، وانتظار فرجه - عزوجل -.
اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واختم بالسعادة آجالنا، وأقرن بالعافية غدونا وآصالنا، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم - بكلية الشريعة وأصول الدين - قسم العقيدة - المشرف العام على موقع دعوة الإسلام