** وُلدا في عام واحد، وانتقلا لجوار الله بفارق شهرين؛ فرثى متأخرُهما متقدمَهما، وربما ردد ما قاله «شوقي بحق حافظ»: «قد كنتُ أوثر أن تقول رثائي»، وللمفارقة؛ فبين وفاتي كبيري الشعر أربعة ُأشهر (حزيران - تشرين أول 1932م).
** لجيلنا مع صاحبينا حكايةٌ تمتد أربعين عامًا؛ حين استضافهما النادي العربي بعنيزة في موسم محاضراته الذي مانزال نراه مثلًا إذ لم يأتِ بعده ما يوازيه، وحكى القصيبي - غفر الله له - في شأنٍ لا يذكره صاحبكم لصغر عمره «ربما»، أما الدكتور محمد عبده يماني 1940-2010م - رحمه الله - فقد جاءت محاضرته مثيرةً وثرية عن وصول الإنسان للقمر، وكان الجو العام ممتلئًا بمن يفكر ومن ينكر ومن يذكر؛ غير أن أهلنا المتأثرين برأي الشيخ عبد الرحمن السعدي 1307-1376هـ - عليه رضوان الله - حين سُئل عن عمليات غزو الفضاء وإمكان وصولهم للقمر فأجاب بعدم وجود ما يمنع الأمر بواسطة آلةٍ ترفعهم إليه، وكان ذلك في عام 1940م (أي قبل الوصول الفعلي بعشرين عاما تقريبا).
** كان الشيخ محمد العثيمين 1347- 1421هـ - عليه رحمة الله - في مقدمة الصفوف، وحَسمت المحاضرة والحضور ما تبقى من شك في النفوس المترددة، وكان «يماني» جريئًا إذ انتقل بصور القمر وتربته وأحجاره لجمهور لا يعرفه، ولم يعبأ إن لاقى عنتًا في شرح قضية يتناهى إلى مسمعه ما يردده الكثيرون حولها كتمثل إبليس على هيئة القمر، ولعبة الاستخبارات الأمريكية بالبشر، وما قد يبدو من تعارض مع بعض النصوص المقدسة.
** كانت تلك بدايةَ معرفة الناس بأبي ياسر، ولم تمضِ خمسةُ أعوام حتى كان أحدَ أعضاء مجلس وزراء «الدكاترة» - الذي بقي الأهم في تاريخ الإدارة السعودية الحديثة، وهنا جاءت مبادرتان مهمتان للوزير اليماني؛ في رفع التعتيم عن قرارات مجلس الوزراء، وتخفيف الرقابة على الكتب، وكان كتابا (حياتنا الجنسية وأطفال تحت الطلب للدكتور صبري القباني) أولَ الكتب المرفوعة من قائمة الممنوعات، وللمراقب الشاب حينها (الدكتور الملحق الثقافي بقطر حاليًا) عبد الرحمن السماعيل دورٌ في إقناع الوزير بعلمية الكتابين ونأيهما عما يُظن غرائزية أو إثارية.
** ثلاثةُ حِراكاتٍ مهمةٌ في التأريخ الاجتماعي والثقافي والإعلامي قادها اليماني، وسُجل له السبق فيها، وقادت - من ثم - إلى تغييرات موفقة في مسارات متوقفة، ثم مضى أبو ياسر عن العمل الوزاري قبل أبي سهيل بعامين، وتفرغ الأول للعمل الخاص والخيري، واستمر الثاني في الدائرة السياسية، والفرق أن القصيبي وثَّق رحلته العملية الرسمية بأكثر من كتاب، بينما نأى اليماني مؤثرًا الصمت وفرحا بالانعتاق، مرددًا آيةً كريمة توحي أن لديه ما يقوله غير أنه لن يقول، ولا ندري هل مذكراته التي تنتظر النشر تحمل ما نعنيه «بتأرخة» الإدارة في الجانب المنزوي؟!.
** هنا (والحديث متصل حول التأريخ المهموس) تغيبُ أضابيرُ الإدارة «غير الرسمية» عن التوثيق إلا قليلا؛ ولو كتب أو سجل «محمد أبا الخيل وفهد الدغيثر ومطلب النفيسة ومحمد الطويل ومحمد الفايز وعبدالرحمن أبا الخيل وصالح الحصين وحمد الشميمري وسليمان السليم وعلي الشاعر وإياد مدني وغيرهم» لتوافرت مادة مهمة ربما لا يتهيأ لها النشرُ دون أوراقهم المسكوت عنها في مدار مناصبهم.
** مضى يماني دون وداع؛ مشيعا بالعبرات والدعوات، ولعل في رحيله درسًا لمن يغريهم الكرسي فيظنونه كافيًا للبقاء، وهيهات؛ فهو إن جلب الهيبةَ واعتمر البشت وتصدر الواجهة فإنه لا يضمن الحب والاحترام، وربما استدار بسببه الدعاء لصاحبه نحو الدعاء عليه، وويلٌ لمن لا يقيم لدعاء المظاليمِ وزنا.
** الإدارة مبادرة.