كنت طالباً في آخر مرحلة من مراحل دراستي الجامعية في كلية اللغة العربية بالرياض، حين كان أبو ياسر وزيراً للإعلام في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وما زلت أذكر ذلك اليوم الذي حملت فيه أوراقاً سطّرت فيها كلمات مختارة بعناية فائقة، تشتمل على عبارات كنت أسهر الليالي الطّوال، أجمعها من كتب قليلة كانت تشكِّل مكتبة صغيرة لطالب، يعشق كثيراً من الكتب، ولا تمكِّنه مكافأة الكليّة من شراء ما يريد.
حملت أوراقي، وقد وضعت لها عنواناً جامعاً، هو «فيض الخاطر»، وهو عنوان البرنامج الإذاعي الذي كنت أحلم بتقديمه من خلال إذاعة المملكة العربية السعودية من «الرياض».
كان مكتب وزير الإعلام في مبنى الإذاعة، ولم يكن هنالك مبنى مستقل للتلفاز، ولم يكن برج التلفاز قد وقف على قدميه. لم يكن يخطر بالبال أنَّ فكرة برنامجي ستحظى بالقبول، ولهذا كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة إليَّ حينما بلَّغني الأستاذ المذيع المعروف «عبدالله فرحة الغامدي» بقبول فكرة البرنامج، والموافقة على تقديمه بصوت المعد يومياً لمدة خمس دقائق، وأجريت اختباراً في اليوم نفسه بإشراف المذيع الأردني إبراهيم الذهبي -رحمه الله-.
كان مكتب الوزير «محمد عبده يماني» قريباً من غرفة تسجيل البرنامج، وكنت كلما عزمت على زيارته أحجمت عنها لكثرة من أرى من المنتظرين في مكتبه.
مرَّت الأيام وقدَّمت برنامجي الإذاعي «فيض الخاطر» في أجواء ممتازة من التشجيع الذي حظيت به من المسؤولين في الإذاعة آنذاك، ومن أساتذتي وزملائي في الكلية، خصوصاً الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا -رحمه الله- الذي كان -حينها- يشنِّف آذان المستمعين ببرنامجه الشهير «صور من حياة الصحابة».
أما المشجع الأكبر لي فهو ذلك الإحساس بالسعادة الذي ملأ قلب والدتي -رحمها الله- وأقاربي، حيث أصبحوا وهم في القرية في منطقة الباحة يسمعون صوتي كلَّ يوم، فيخفف عن نفوسهم وطأة الفراق، ويوازي هذا ذلك الصدى الجميل الذي يصلني عبر بريد الإذاعة من رسائل المستمعين من داخل المملكة وخارجها، وهي رسائل لا تخلو من الطَّرافة خصوصا ما يأتي منها من جنوب شرق آسيا وإفريقيا، وبعض الدول العربية مدبَّجاً بعبارات «صاحب الجلالة الأستاذ عبدالرحمن، أو صاحب المعالي والفخامة، أو الإمبراطور الأعظم، وما شابه ذلك من العبارات».
توجَّهت في آخر ذلك العام الذي قدَّمت فيه هذا البرنامج الإذاعي مع معسكر الجامعة «جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية» إلى الحج بإشراف عميد شؤون الطلاب آنذاك معالي الدكتور صالح بن سعود العلي الذي كان نعم المشجع للطلاب الراعي لشؤونهم، وبرفقة عددٍ من أساتذة الجامعة وطلابها، وكنت أحلم بإلقاء قصيدة كانت جاهزة لديَّ في حفل «منى» السنوي الذي يرعاه الملك خالد رحمه الله في العام الثاني من توليه مقاليد الحكم، ويحظى بحضور متميّز من الملوك والرؤساء والعلماء، والأدباء والمفكرين.
كان التشجيع قويَّاً من د. صالح العلي، حيث اصطحبني مع بعض منسوبي الجامعة صبيحة يوم عيد الأضحى المبارك إلى مقر الحفل، وهناك كان اللقاء بمعالي وزير الإعلام «محمد عبده يماني» -رحمه الله-، بل اللقاء بدماثة الخلق، والتواضع، ولين الجانب، وكان فرحه كبيراً حينما أخبرناه برغبتي في إلقاء القصيدة، وكان استقباله حافلاً، فما كاد يقرأ فيها بعض الأبيات حتى قال: أبشر «يا وجيه» وهذه كلمة يطلقها أهل الحجاز على كلِّ من يحمل اسم «عبدالرحمن» وأمسك بيدي، ووقف بي أمام رئيس المراسم الملكية «أحمد عبدالوهاب» وطلب منه إدراجي في قائمة أسماء الشعراء الذين سيلقون قصائدهم في ذلك الحفل، وكان الحفل وكانت المشاركة بقصيدتي «صرخة الحق» وهي أوَّل قصيدة في ديواني «إلى أمتي».
حينما انتهى الحفل، دعاني إليه وقال: لقد أثلجت صدري يا وجيه، وأخذني للسلام على الملك خالد، وولي عهده الملك فهد -رحمهما الله-.
وتوثَّقت بعد ذلك العلاقة بأبي ياسر، بل بالبشاشة والابتسام والتواضع، وحسن الخلق، حتى في اللقاءات التي واجهته فيها بأسلوب شاب متحمِّس يطرح عليه أسئلة صارمة في مسائل تتعلَّق بالصوفية وما يتعلَّق بها من المخالفات الشرعية، فقد كان -رحمه الله- يستمع إليَّ بإنصاتٍ دون انفعال، ويقول ما لديه بهدوءٍ وتواضع، ويودِّعني بالابتسامة نفسها وكأن شيئاً لم يكن.
رحم الله معالي د. محمد عبده يماني، وأحسن عزاء أهله جميعاً فيه، وأحسن عزاء أصدقائه ومحبّيه.
إشارة:
إنما القبر زورق في محيط الدهر يجري بنا إلى الرحمن