لم يكن ممكناً متابعة زيارة رئيس إيران الدكتور نجاد إلى لبنان دون قلق، ليس فقط لأن الزيارة بدت مثيرة للقلق وحسب، بل لأن أوضاع المنطقة قلقة وتحمل منذ زمن طويل عناصر قلق كثيرة، توحي بقرب انفجار عام فيها.
في هذا الجو، كان من المتوقع أن يخشى من تابعوا خطب وأقوال الرئيس نتائج ما سيقوله، وما إذا كانت زيارته للبنان ستؤدي إلى نشوب حرب جديدة، بين أبنائه أو مع إسرائيل.
في الحسابات الباردة، تختلف الوقائع اختلافا شديدا عن هذه الصورة، فالرئيس الإيراني يعلم تماما أن وضعه ووضع حلفائه في لبنان ليس على قدر من المتانة يسمح بانتقال سياسته من عالم الأقوال إلى دنيا الأفعال، خاصة الحربية منها، وأن حليفه الرئيس، حزب الله، في مأزق صعب ليست الحرب أفضل طريقة للخروج منه، خاصة إن كانت مرشحة للامتداد إلى الجوار.
وهو يعرف بالتأكيد أن الجناح اللبناني/ السوري يجب أن يبقى سليما، وإلا انكشفت إيران وتزعزعت مواقعها في العالم العربي كله، وحصرت في العراق تمهيدا لمحاصرتها في طهران نفسها.
وفي هذا ما فيه من خطأ إستراتيجي لا يجوز اقترافه في لحظة حاسمة كاللحظة الراهنة، تحمل تطورات ملائمة لها، أهمها تمدد نفوذ إيران القوي إلى العراق، حيث تصير أكثر فأكثر شريكة لأميركا، العازمة عل إكمال انسحابها منه، فليس من المعقول أن تزج بنفسها في مغامرة غير مضمونة النتائج، خسائرها قد تكون أكبر بما لا يقاس من أرباحها، بينما يوجد ثمة متسع من الوقت لتحسين مواقعها ومواقع حلفائها، بعد علاج المآزق الراهنة، وفي مقدمها مأزق انفجار لبناني يمكن أن يبعثر قوة حزب الله، ويحدث تحسينا نوعيا في وضع إسرائيل سيحولها من طرف في صراع إلى جهة تتحكم بالتطور وتديره، بوسعها خوض حرب بالوكالة ضد الحزب ريثما تتقدم بجيشها إلى ميدان القتال كي تقضي على البقية الباقية منه، بعد ما سيصيبه من إنهاك في حرب الأخوة.
لا عجب أن نجاد ألقى في لبنان خطابين: أحدهما موجه نحو التهدئة، تحدث عن لبنان بوصفه موطن شعب واحد متنوع الأديان والمذاهب، تكمن فرادته في تنوعه، الذي يجب أن يثري وجوده، ويتم الحفاظ عليه، في سائر الظروف ومهما كانت التحديات.
وآخر تقليدي ولا يتضمن جديدا موجه إلى العدو الإسرائيلي، كرر نجاد فيه مقولاته المعروفة حول قرب انهيار الكيان لصهيوني وقرب اختفائه من المنطقة، وهو خطاب تعبوي بمعنى كلامي فقط، علما بأنه ليس على الكلام جمرك، كما يقول عرب المشرق.
فالرئيس الإيراني طالب في مدينة بنت جبيل الإسرائيليين بالاستسلام (دون حرب على ما يبدو!)، بينما ألح بصورة متكررة على السلام والتهدئة في بيروت، ووصف الحريري بالصديق العزيز والغيور على لبنان الذي امتدت إليه يد الغدر، واعتبر الأطراف اللبنانية المتصارعة أصدقاء، وقال إن طوائف لبنان كالأزهار التي تطلق شذاها في كل اتجاه، وأكد أنه لا يجوز بأي حال السقوط في أتون الفتن المذهبية والطائفية، وأن أتباع الديانات الكتابية أمة واحدة كمؤمنين، فلا يحق لأي منهم الاعتداء على غيره أو المس بأمنه وسلامته...إلخ.
هذا الخطاب لا تسمح الظروف بغيره أو بنقيضه، ولم يكن من الممكن تخطيه أو تجاوزه، في ظرف دقيق ليس بحاجة إلى مزيد من الحطب كي يشتعل وينشر لهيبه في المنطقة، فيعيدها عشرات إن لم يمكن مئات السنين إلى الوراء، بينما يوجد قرار دولي واضح بعد السماح بنشوب حرب، وتسيطر على الأجواء شراسة إسرائيلية غير مسبوقة تجعل الحرب فخا إسرائيليا منصوبا لإيران ولأصدقائها وحلفائها العرب هنا في الغرب، بعد أن امتنع الأميركيون عن الانسياق وراء رغبات الصهاينة في شن الحرب وخوضها هناك في الشرق، على ضفاف الخليج العربي وفي ما وراءه!.
لن تتغير مفردات الواقع القائم في لبنان وحوله خلال الفترة القريبة القادمة.
ويرجح أن يبقى الخطاب الإيراني والقريب من إيران موجها نحو منع نشوب حرب إسرائيلية جديدة، لا يضمن أحد نتائجها، وإن كان من المؤكد أن المنطقة لن تبقى بعدها ما كانت عليه قبل وقوعها.
كما يرجح أن يثمر خط التهدئة تحسنا في علاقات اللبنانيين الداخلية، ليس فقط لأن سعد الحريري يبدو رئيس وزراء لا بديل له، بل كذلك لأن الاقتتال الداخلي لا يحل مشكلة المحكمة الدولية والقرار الظني، حتى إن انتصر حزب الله على خصومه، وبادر هؤلاء إلى إرسال طلب رسمي إلى مجلس الأمن يلتمس إلغاء المحكمة والقرار!.
قبل الزيارة، ساد المنطقة قلق شديد على لبنان. بعدها، حدث شيء من الاطمئنان، وظهر وكأنه ليس لإيران نوايا وخطط خفية هناك، وأن أقوال نجاد قدمت رؤية القيادة الإيرانية لواقع وآفاق الصراع الدائر اليوم على جناح إيران الغربي، قرب المتوسط.
قال نجاد بلغة متفاوتة الوضوح: نحن نريد التهدئة، لأننا لسنا مستعدين للقتال، أو لأن الظرف غير ملائم له، أو لأننا لا نريد السقوط في فخ إسرائيلي، أو لأن نتائجه غير مضمونة!.
لم تنه كلمات نجاد أزمة لبنان، مع أنها أبعدتها، لبعض الوقت ربما ،عن سخونة النار دون أن تضعها في برودة الثلج.
لكن أزمة لبنان ليست شيئا جديدا، بل هي قديمة ومن الصعب أن تنتهي بالخطب والنوايا الحسنة وحدها، خاصة إن استمرت لغة التهديد والوعيد، ولم تتراجع أدوار الساعين إلى إثارة المشاكل.
يقول المثل: كل مشكلة ولها حلال.
هل بقيت مشكلة لبنان بلا حل كي لا تنتقل المشاكل إلى غيره، فتقوم الدنيا عندئذ ولا تقعد!.
لم تنته أزمة لبنان، لأنها يجب ألا تنتهي.
وليست زيارة نجاد غير محطة مهمة على طريق إدارتها، جعلتنا نرى بعض أوجه الواقع على حقيقتها، ونفهم أن وقت حل الأزمات لم يحن بعد، بالنسبة لإيران قبل أي أحد آخر!.