تعودت منذ سنوات عدة أن أستقبل الأعياد بطريقة خاصة ألا وهي أن أذهب أولاً إلى أمي الصحراء، سيدة الأقاليم وأميرة الأمكنة وعصيّة الحب إلا على الهواء الطلق والنسائم الرهيفة والغيوم البعيدة الرهوة البيضاء التي تعوم في زرقة السماء بشموخها النبيل والطيور المهاجرة التي تقطع سماءات البوادي الفساح لتستظل بشجيرة سدر أو عرفج أو رمث أو شيح أو قيصوم لتتنفس من خلال العبق الشجري عطر الحياة النفاد الذي يتسرب إلى زغب الريش ورفيف الأجنحة ثم تحمله وهي محلقة إلى جميع الأنحاء وهي تعبر فضاء الله الفسيح.
أقول تعودت أن (أعايد) حبيبتي الصحراء بباقات من الخزامى والنفل والنوار و(الديدحان) وبكأس من رذاذ السحاب النقي وربابة مصنوعة من جلد الذئب وخشب الزان وسبيب المهار الأصيلة وقوس من الخيزران وأغنية جديدة تليق ببهائها الفظيع. وفي هذه المرة بالذات لست أدري كيف اخترت عازف الربابة الأخاذ (فرحان الظفيري) لنجوب صحراء الباطن مقتفين آثار مالك بن الريب وهو يتجول في (بطن فلج) ليقطع درب القوافل ويوزع الغنائم على فقراء قبيلته تميم، في هذه المنطقة بالذات وتذكرنا معاً صعاليكه الأوفياء (غويث الطائي، وأبي حردبه، وشظاظ الضبّي وهم يهزجون في انشعابات (وادي الرمة) العظيم أو يوقدون نيرانهم في تلافيف الشعيب وكان أحدهم يغني بصوت يقطع نياط القلب هكذا:
(ألا يا بعد من أهوى مودته
وقد أتى دونه الصمان فالحفر)
يالذاك البُعد في ذلك الزمن القديم ويا قربه منّا في زمننا هذا حينما نطوي المسافة (طي السجل) فوق (رواحلنا المعدنية) الحضارية السريعة لذلك راح (فرحان) يُغني بصوته العذب الشفيف الآسر ونحن نقطع الشعيب:
(يا شعيب فليج ما شفت طرقيه
سبرمان وجيب ماشين تغريبي
مع مجرّك روّحوا وقت عصريه
ما لهم يا فليج حولك معازيبي
قادهم عودٍ أخلاقه تجارية
شايبٍ عرف الزمن بالتجاريبي
ليت عندي حول عشرين دوريه
يطرحونه غصب وآخذ مطاليبي)
وبالطبع (مطاليب) الهوى العذري والعشق العفيف لا تتعدى كلمتين رقيقتين للمحبوب أو رؤية ابتسامته المشرقة لا أكثر (!!).
وفيما صوت فرحان يتردد في حواف الشعيب (بطن فليج) لست أدري كيف تواشج مع صوت (راجزٍ) كان يختزنه الشعيب منذ زمن مالك بن الريب وكيف اندغم مع صوت فرحان هاتفاً:
(الله نجاك من القصيم
وبطن فلج وبني تميم
ومالك وسيفه المسموم
ومن شظاظ الاحمر الزنيم
وأبي حردبة الأثيم
ومن غويث فاتح العكوم)
واصلنا طريقنا ونحن نظن أن صوت الراجز هو ضرب من غناء الجن ولكنني نبهت فرحان أن هذا الرجز كامن في الشعيب منذ تأبدات مالك بن الريب فيه وعصابته الثلاثية، ولكننا لم نسر الا قليلا حتى رأينا أربعة أشباح تنتصب على جال الشعيب وهي تردد معنا (يا شعيب فليج ما شفت طرقية؟!)
بالطبع كانوا يقصدون أنفسهم لأنهم مجرد (طرّقيه) عبروه في الزمن الغابر وتركوا لنا أنشودة الراجز فقط وتركنا لهم شدو (فرحان) الرخيم الذي أيقظهم من سبات التاريخ ودورة الأزمنة.