يعرض كتاب الآثار الإسلامية ببلدة «بدا» - محافظة الوجه - في شمال غرب المملكة العربية السعودية، لمؤلفته د. حياة عبد الله حسين الكلابي للآثار الإسلامية الباقية ببلدة «بدا» الواقعة في منطقة تبوك على بعد مئة وخمسة كيلومترات إلى الشرق من مدينة الوجه. وكانت «بدا» حسبما تذكر المؤلفةُ في مقدمة كتابها واحةً قديمةً نزلتْها قبيلةُ بلي فيما قبل الإسلام، ثم ازدهرتْ هذه البلدة الواقعة على طريق قوافل الحجاج القادمة من مصر وفلسطين والمغرب الإسلامي خلال الفترة الممتدة من القرن الأول إلى القرن الخامس الهجري. وتشير د. حياة الكلابي إلى وجود موقع أثري إسلامي في الطرف الشمالي الغربي لواحة «بدا» عامر بالتلال الأثرية وبه أيضاً بقايا بركة ماء وآثار لقناة مبنية كانت تمتد تحت الأرض لتزود البركة المعروفة ببركة الحاج بالماء من منابعه في سفوح الجبال الواقعة في شرق الواحة. وقد وجهت المؤلفة اهتمامها لدراسة الآثار الإسلامية بالموقع الذي يُعَدُّ من أهم المواقع الأثرية بتلك المنطقة لاسيما مع وجود نقوش تذكارية كوفية على صخور جبل شهيبة «بدا» الشمالية.
وقد قُسم الكتاب الذي هو في الأصل أطروحة نالت بها المؤلفة درجة الدكتوراه في الآثار إلى ثلاثة فصول ألحقت بها مجموعة كبيرة من الأشكال واللوحات التوضيحية وكذا الجداول الإحصائية عن نقوش «بدا» وصيغها وأسماء الإعلام الواردة بها.
ويتناول الفصل الأول «الخلفية الجغرافية والتاريخية» لموقع بدا، وفيه إطلالة شاملة على الجغرافيا الطبيعية والسكانية للمنطقة، وحصر دقيق لما جاء في المصادر العربية المختلفة عن «بدا».
ويتضمن هذا الفصل معلومات عن موقع «بدا» بين خطي الطول(36,50و36,55) ودائرتي العرض (26,50و26,55)، وطبيعة النسيج العمراني للبلدة والمؤلف في الوقت الحالي من مجموعات متفرقة من المساكن الشعبية تحيط بها بساتين النخيل من جهات ثلاث. وعرجت المؤلفة هنا أيضاً على أصل تسمية «بدا» ومدلولها اللغوي وطريقة نطقها وكتابتها سواء في المصادر العربية أو في الشعر العربي أو على ألسنة سكان بدا.
وثمة سرد واف لتضاريس منطقة «بدا» والتي تتنوع بين مرتفعات تقع في وسط الواحة، منها جبل شهيبة «بدا» الشمالية وجبل شهيبة «بدا» الجنوبية وجبل أزينم الأعلى وجبل أزينم الأسفل وجبل نعل وجبل آدم وبين مرتفعات تحيط بالواحة وأودية مثل وادي النجد ووادي «بدا» ووادي كلخة ووادي أبو القزاز. وسيجد القارئ أيضاً معلومات عن المصادر المختلفة للمياه بواحة «بدا» مع وصف دقيق للمنطقة السكنية بالواحة وما تضمه من مسجد ومدرسة ومنازل مبنية من اللبن ومعالم مفردة كالسد وخشم الوصيل والعرف وطور الوكالة، فضلاً عن الأصول القبلية للسكان والأنشطة التي يمارسها السكان عبر العصور كالزراعة وتربية الماشية وتسويق منتجاتها المختلفة، وأهم المنتجات الطبيعية في الواحة ومنها الفحم النباتي وعدد من الأعشاب الطبية.
وفي نهاية الفصل الأول نجد مبحثاً خاصاً عن «بدا» في المصادر الجغرافية والتاريخية والأدبية تناول ما أوردته المعاجم الجغرافية مثل معجم البلدان لياقوت الحموي عن بدا، وما ورد أيضاً في المصادر التاريخية مع تفنيد تاريخي لما هو شائع من ربط بين «بدا» وبين يعقوب عليه السلام، وهو ما أكدت الدراسة على أنه خطأ تاريخي، فضلاً عن التطورات التي لحقت بواحة «بدا» سواء على صعيد علاقتها بما حولها من المدن الواقعة في تهامة بلي أو في نطاق دورها كمحطة مهمة على طريق الحج المصري إلى أن تراجع دورها ذاك نتيجة لتحول طريق الحج نحو الساحل وإهمال الفرع الداخلي منه حيث كانت تقوم «بدا» القديمة.
أما الفصل الثاني فجاء تحت عنوان «الدراسة الميدانية للموقع الأثري» وبه استعراض لكافة المظاهر والمكونات العمرانية لموقع «بدا» والمعثورات واللقى التي وجدت به.
وقد وجهت المؤلفة اهتمامها لوصف التلال الأثرية الواقعة على الجانب الغربي لوادي «بدا» قبيل نقطة التقائه بوادي كلخة، وهي تلال تغطي مساحة مستطيلة طولها 500م وعرضها 400م وبينت ما بها من بقايا الجدران القديمة وما تحتويه على سطحها من أحجار مختلفة وكسر الفخار, وكذلك ما بهذه التلال من المقابر القديمة الثلاث والتي ما تزال قيد الاستخدام من قبل السكان. ولا تستبعد الدكتورة حياة الكلابي أن يكون موقع التل الأثري الكبير هو الموقع الذي شهد بداية الاستيطان في فترة سابقة على الإسلام نظراً لوجود نقوش كتابية ورسوم صخرية تنتمي لتلك الفترة.
ومن الأجزاء المهمة في هذا الفصل ذلك الذي يتناول المنشآت المائية الباقية في موقع «بدا» وهي تنحصر في آثار عين «بدا» وتشمل بقايا خرزات العين والقناة الجوفية التي تمتد من منبع العين الواقع في شرق الواحة إلى أن تصل للموقع الأثري الحالي. وطبقاً لما أوردته المؤلفة فإن عين «بدا» تبدو جافة في الوقت الحاضر، وقد كان لها منبعان أحدهما يقع في سفح جبل ترشد والآخر يقع بالقرب من جبل أزنيم الأعلى، وتنطلق من كل من المنبعين قناة جوفية مشيدة بالحجر حتى مكان يسمى البدع تصيران عنده قناة واحدة تظهر على سطح الأرض لتصب في بركة الحاج.
والمنشأة المائية الثانية الباقية هي بركة «بدا» التي تُعرف ببركة الحاج وتُعَدُّ إحدى البرك القديمة على طريق الحج المصري الداخلي. وتقع هذه البركة في الطرف الجنوبي الغربي للموقع الأثري على بُعد 300م تقريباً من سفح جبل الشهيبة الشمالي، وهي توجد في الوقت الحاضر بداخل مقبرة مسورة نشأت حولها في فترة متأخرة.
وفي نهاية الفصل الثاني قائمة تفصيلية بالملتقطات السطحية التي عُثر عليها في موقع «بدا» وهي مصنفة طبقاً لمواد صناعتها.
وأهم هذه الملتقطات الكسر المصنوعة من أنواع مختلفة من الفخار، وعددها خمسة وخمسين كسرة فخارية قامت المؤلفة بالتقاطها من سطح الموقع الأثري، وهي تعطي فكرة عامة عن أنواع الفخار والخزف الإسلامي الذي كان مستخدماً ببلدة «بدا» وطبيعة الفترة التاريخية الني ازدهرت خلالها. وجرى تقسيمها إلى كسر من الفخار غير المزجج، ويعود بعضها للقرن الأول وبداية القرن الثاني الهجريين، والبعض الآخر يحمل خصائص الفخار العباسي والفخار الفاطمي، واشتملت أيضاً على أنواع مختلفة من الفخار مثل الفخار الأصفر والفخار الأحمر وكلاهما نُفذت زخارفه بالحز والفخار الرمادي الصلب والفخار المشكل باليد وفخار القلل. والقسم الثاني من كسر الفخار شمل مجموعة الفخار المزجج، وتشمل أنواعاً متعددة منها الفخار المزجج بطلاء قلوي من لون واحد والفخار المزجج بطلاء رصاصي من لون واحد والفخار المزجج ذو الزخارف المخططة والمبقعة والصنف المعروف بالفيومي من هذا النوع الأخير فضلاً عن كسر من الخزف ذي البريق المعدني. وشملت قائمة الملتقطات السطحية أيضاً كسراً من الزجاج وقطعاً من الحجر الصابوني وحجر المسن والآجر.
والفصل الثالث من هذا الكتاب كان عن «النقوش الكوفية» وفيه قامت د. حياة الكلابي بنشر مائتين وأحد عشر نقشاً كوفياً وُجدت جميعها على صخور جبل الشهيبة الشمالية الذي يجاور الموقع الأثري من الجهة الشمالية الغربية.
وبالقسم الأول من هذا الفصل وصف وقراءة لنصوص النقوش جميعها مع التعليق عليها، وهي في أغلبها نقوش قام بتنفيذها الحجاج والمسافرون المارون ببدا في رحلة الذهاب إلى الأماكن المقدسة أو العودة منها كتذكار يخلد رحلتهم ومرورهم بالطريق، ولا تستبعد المؤلفة أن يكون بعض هذه النقوش من عمل السكان القاطنين ببدا.
أما القسم الثاني فيشتمل على الدراسة التحليلية لصيغ النقوش وخطوطها، وقد حصرت د. حياة الكلابي الصيغ الواردة في تلك النقوش في سبع وعشرين صيغة متنوعة تتضمن تصريحاً بتوحيد الله والإيمان به واعترافاً بربوبيته وإقراراً بالولاء له سبحانه وتعالى وبالتوكل والاعتماد عليه، وتصريحاً بالثقة واليقين به، وتصريحاً بمحبته وخشيته وطلباً لمغفرته ورحمته واعترافاً بمآل الأمور إليه وحده. كما تتضمن بعض الصيغ تسجيلاً لأسماء الله الحسنى وإثباتاً للمرور بالمكان وحثاً على ذكر الله.
ولم تكتف المؤلفة بذلك الجهد العلمي الموثق بل أضافت إليه جانبين مهمين أولهما تناول طريقة ترتيب الأسطر وتنظيمها في النقوش، ثم دراسة تحليلية مقارنة لأشكال الحروف وزخارفها بها حشد من الأشكال التي تعكس بدقة تطور كتابة الحروف بمواقعها المختلفة من الكلمات وتنوع أشكالها وما تحمله أحياناً من زخارف مختلفة، وفي الإطلاع عليها فائدة لا شك فيها للمعنيين بدراسة تطور الكتابات العربية.
وقد زودت الدكتورة حياة الكلابي كتابها بعدد من الملاحق (14 ملحقاً)، لعل أهمها جدول بنقوش «بدا» حسب ترتيب عرضها في البحث وآخر بالأسماء الواردة في نقوش «بدا» ثم تصنيف للصيغ الواردة في نقوش «بدا» وجدول بتواريخ النقوش المدونة والمحتملة، وأخيراً جدول تحليل حروف نقوش «بدا» المؤرخة وجدول بأشكال الحروف في كافة النقوش.
ويحفل كتاب «الآثار الإسلامية ببلدة بدا» بعدد وافر من الصور والخرائط والتفريغات والرسوم ذات الصلة بالموضوعات والآثار التي تناولتها المؤلفة في فصوله الثلاث، فضلاً عن قائمة ثرية بالمصادر والمراجع التي استعانت بها في تصنيف هذا الكتاب.
د. أحمد الصاوي