اسمها: إديت. وطنها: الفلبين. عملها: عاملة منزلية. عمرها: 50 عاما.
أعوامها الخمسون جلية على وجه لم يعرف إلا الكدح طوال عمره, شاء قدري وقدرها أن نوجد في المكان ذاته, وأن تعمل لدينا في المنزل, في الطبخ أو التنظيف أو غسيل الملابس, حين رأيت (إديت) أول مرة لم يكن هناك شيء مميز فيها سوى ابتسامتها العريضة المشعة التي اعتقدت أنها ابتسامة الضيف الجديد التي ستختفي قريباً مع بداية عملها وانغماسها فيه.
ولكن خابت كل ظنوني وتوقعاتي, وبقيت هذه الابتسامة مزروعة في وجهها وقلبها منذ أول مرة رأيتها فيها, أي قبل 7 سنوات تقريباً وحتى يومنا هذا!
منذ أول يوم وحتى اليوم هناك شيء غريب لا أفهمه فيها, فهي أسعد مخلوق قابلته وعشت معه طيلة حياتي, ابتسامتها التي لا تقوى على نزعها عن محياها, ضحكاتها من الأعماق على أبسط مزحة أو نكتة ألقيها, صوت دندنتها الذي يصل أحياناً إلى غرفتي في الطابق العلوي جعلتني أسألها عن سر سعادتها الدائمة على الرغم من أنها بعيدة عن كل شيء أحبته يوماً.. عائلتها, أبنائها, وطنها, أصدقائها, عالمها وكل شيء! نعم كل شيء!
فكان جوابها: ابنتي, الحياة أقصر مما نعتقد, دموعي وأحزاني لن تغير واقعي, واللحظات التي أعيشها اليوم قد لا تعوض, أشتاق لأبنائي وأسرتي: نعم. ولكني أعتقد أن كل ما يعاملني بحب ولطف هو فرد من عائلتي وكل مكان أجد فيه الأمان والراحة هو وطني ومسقط رأسي..
إنني ببساطة سعيدة بما لدي اليوم, وأعيش اللحظة كما هي دون أن أثقلها فأشوهها بآلام الماضي والقلق والخوف من المستقبل فلا أحد سيعوضني عنها يوماً.
جاءت إجابتها كصدمة حقيقية بالنسبة لي, وشعرت بالخجل من نفسي حين كنت أتذمر من أبسط النواقص وأتفهها, إديت علمتني درساً - أردت أن أشارككم إياه - وهي التي لم تحصل إلا على الشهادة المتوسطة ربما ولكنها تملك شهادة أجمل وأروع من مدرسة السعادة ومن جامعة الفرح.
هي أهدتني مواسم خصبة بالضحكات وعلمتني أن السعادة لا تعني الرفاهية إطلاقاً, حيث إنها ليست في الأموال والقصور والمظاهر الفارغة, إنها الطاقة التي تنبع من الداخل من نفس محبة وممتنة للنعم والأشياء الرائعة من حولها.
أتعجب كثيراً منا نحن السعوديين فكثير منا يعيش محاطاً بالنعم الإلهية من كل جانب, يعيش بين عائلته وأحبائه, يحظى بحياة كريمة, يتمتع بالصحة والعافية ونعمة الإسلام ولكنه يتذمر ويتشكى ويندب واقعه في كل حين.
كم أتمنى أن أمر في الشارع وأرى ابتسامة على وجوه أحد المارة, كل ما أراه وجوه عابسة مكفهرة نابعة من نفوس خائفة لا تجرؤ على قطف لحظة فرح.
طلبت من عددٍ من معارفي أن يذكروا لي 3 أشياء تجعلهم يبتسمون ابتسامة صادقة نابعة من قلوبهم كل يوم, الأغلبية لم يستطيعوا الإجابة الأغلبية يواجهون تصحراً وشحاً في موارد السعادة, لأنهم يعتقدون أن تلك الأشياء الثلاثة غير متوافرة في حياتهم, أو بالأحرى هي موجودة ولكنهم مشغولون عنها أو لم يشعروا بأهميتها وقيمتها الحقيقية أثناء ركضهم ولهثهم بحثاً عن أشياء أخرى مفقودة من حياتهم!
واقعنا محزن وأليم.. فعلى الرغم من حجم النعم التي تحيط بنا وتلتف على حياتنا إلى أننا لم نعد نحس بها, نتجاهلها بل وندوس عليها أحياناً.
وضعنا أسقفاً شاهقة لأحلامنا وأسباب سعادتنا فأصبحنا أقزاماً أمامها نقفز محاولين الإمساك بها ولكننا نعود لنجد أيدينا خاوية وقلوبنا باكية من سعادة وهمية طال انتظارها.
فكما يقولون إن السعادة ليست محطة نصل إليها بل رحلة نمشيها ونستمتع بها, فلنحرر المفهوم المشوه لها في داخلنا من تلك الأغلال والقيود التي أثقلناها بها فسنجد أنها أقرب وأبسط مما نعتقد.
أخيراً.. يبدو أن الحديث عن السعادة وفهمها وكيفية الوصول إلى معناها الحقيقي لم يعد كلاماً فلسفياً لا فائدة منه بل حاجة ملحة في زمن تزايدت فيه همومنا وآلامنا وقلت فيه ضحكاتنا وابتسامتنا فهل آن الأوان لكي نتأمل النعم والأشياء الجميلة من حولنا لنعرف كم نحن محظوظون وغارقون في نعم عديدة أكرمنا بها الله سبحانه؟ نعم أعتقد ذلك!.
نبض الضمير: (أنت لا تحتاج إلى البحث عن السعادة، فهي ستأتيك حينما تكون قد هيأت لها موقع إقامتها في قلبك).