أكتب هذه السطور في صباح اليوم الرابع عشر من شهر ذي الحجة والسعادة تغمرني. ذلك أني رفلت -خلال الأسبوع الماضي- بأثواب من البهجة والسرور. فلقد تحقق لي، كما تحقق للوطن .....
..... العزيز، الكثير من النعم التي توجب الشكر لمن أنعم بها. فمن هذه النعم عليّ بالذات أن تمتعت بقضاء أيام سعيدة مع الأهل والأقارب والأصدقاء في رحاب عنيزة مسقط رأسي، وحضن طفولتي، ومرتع صباي. وما أسعد المرء بالتمتع بمسقط رأسه، وحضن طفولته، ومرتع صباه! ومن النعم المتحققة للوطن العزيز ما تجلّى في أروع صوره من أمور في موسم حج هذا العام.
قد تكون رحاب مسقط الرأس، وحضن الطفولة، ومرتع الصبا تغيرت ملامحها نتيجة ما لحق بها على يد التغير، أو التغيير، الذي حتّمه مسيرة المجتمع. لكن الروح ما زالت تنتشي بعبق أنسام تلك الملامح، والنفس ما برحت تتلذّذ بارتسامات الذكريات فوقها.
وكنت حاولت التعبير عن استرجاعي لشيء من تلك الذكريات بأبيات من قصيدة عنوانها «عودة الغائب» فور عودتي من اسكتلندا إلى الوطن، منهياً دراستي العليا، وذلك قبل ثمانية وثلاثين عاماً. قلت:
حبيبتي أنت يا فيحاء ملهمتي
ما خطه قلمي شعراً وما كتبا
رجعت من غربتي كي أستريح على
رُبى لدى قلبي المضنى أعز رُبي
ما بينهن عرفت الأنس في صغري
وفوقهن عرفت اللهو واللعبا
هنا سمعت أهازيجاً مرتّلة
وعشت أيام أشواق وعهد صبا
هنا سجلات تاريخ تحدثني
بما يطيب عن الماضي الذي ذهبا
تعيد لي صورة الهفوف كاملة
الناس والشارع المسقوف والعتبا
ومتعباً قصد المشراق في دعة
وظامئا من «سبيل» عُلِّقت شربا
وصورتي كل يوم حاملاً بيدي
إلى العزيزية الكراس والكتبا
ومعهداً كان لي فيه سنا أمل
وإخوة جمعوا الأخلاق والأدبا
وكان ختام تلك القصيدة:
حبيبتي أنت يا فيحاء معذرة
أن جاء وصفي لما في النفس مقتضبا
فما وهبت خيالاً في تدفّقه
يطوي المسافات حتى يبلغ الشهبا
ولا وهبت يراعاً من شمائله
أن يستجيب لقلبي كل ما طلبا
في مهجتي الود أصفاه وأعذبه
لسحر عينيك ضاق النطق أو رحبا
في زيارتي الحالية لمسقط الرأس، وحضن الطفولة، ومرتع الصبا أثلج صدري كثيراً ما شاهدته فيها. ومن ذلك ما شاهدته من إنجازات وفق الله المسؤولين في بلدية عنيزة إلى تحقيقها. ومن أبرز تلك الإنجازات ما يفتخر به من نظافة شوارع المدينة، وما يعتز به من تحسينات في هذه الشوارع. وهذا التوفيق نعمة واجبة الشكر للمنعم بالتوفيق، وجديرة بتقديم الشكر الجزيل للمسؤولين في البلدية -وفي مقدمتهم رئيسها بطبيعة الحال الذي هو قدوة حسنة- على ما يقومون به من جهود موفقة.
على أن أيام السرور قد يصحبها ما يحدث الألم. ذلك أنه قبل أيام قليلة من بدء زيارتي الحالية لبلدتي العزيزة اختار الله -سبحانه- إلى جواره رجلاً منّ الله عليه -وهو المنان دائماً- بأن وفقه إلى أن يضاعف أعماله الخيّرة، فقد انتقل إلى ذلك الجوار الرحب بالمغفرة والرضوان فقيد الكثيرين من الأحبة الشاعر المبدع والراوي الثبت، وعامر المجلس الرائع أبو عبدالله سعد بن عبدالعزيز السليم. وكنت في كل زيارة لي إلى فيحاء القصيم البهيجة المبهجة أسعد كل السعادة بالحظوة بمجلسه العامر أستمتع بما كان يتفوه به من الشعر الجميل، والقصص الصادقة المكسوة روعة ببراعة الأداء.فرحم الله الفقيد رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته. وإن مما يخفف من وطأة الألم بفقده الثقة بأن الله الرحمن الرحيم ختم له بعونه ومشيئته بخير خاتمة. ومما يخففها، أيضاً، أنه خلّف ذرية يتحلى أفرادها بما هو محبوب ومحمود من قبل من يقدّرون الناس حق قدرهم. فرزقهم الله البر به ميتاً بمواصلة الدعاء له والترحم عليه، كما رزقهم البر به حياً بالقيام بما وفقوا إليه من القيام بكل واجب تجاهه.
ذلك ما كان من النعم عليّ بالذات. فماذا تحقق من النعم للوطن العزيز في الأسبوع الماضي. لعل أوضح هذه النعم ما تجلّت صورها في موسم الحج هذا العام. عناية قيادة وطننا العزيز بالحرمين الشريفين، أمناً وعمراناً، عناية كبيرة فائقة. بدأت منذ أن وفّق الله مؤسس وحدته، وواضع أسس نهضته الحضارية، الملك عبدالعزيز -تغمّده الله برحمته- إلى إكمال مسيرة توحيده. وتواصل توفيق الله لأبنائه خلفائه في الحكم بأن يرسخوا تلك العناية عاماً بعد عام حتى أصبح وضع الحرمين الشريفين على ما أصبح عليه من شهد اكتمال مشروعات عملاقة في طليعتها ما تحقق بالنسبة للمسعى، والجمرات، وقطار المشاعر، كما شهد نجاحاً عظيماً في عملية تفويج الحجاج. وكان هذا كله مما يسَّر للحجاج كلهم حجهم، وهيأ لهم الراحة والاطمئنان. وهو مما يوجب شكر الله -سبحانه- على توفيقه لمن أقام تلك المشروعات، وأنجز ذلك النجاح.
فجزى الله خير الجزاء كل من عمل صالحاً لخدمة أمتنا المسلمة، أمراً بتقديم الخدمات الجليلة لها، وتنفيذاً متقناً مسدداً لما صدر من أوامر وتوجيهات مخلصة صائبة. وكل عام ووطننا العزيز، قيادة وشعباً، محروساً بحفظ الله ورعايته، وأمتنا المسلمة معافاة موفقة.