كثيرة هي الألسنة التي تنطق بصوت مسموع أو بحرف مقروء أو بإشارة مشاهدة، متزاحمة على أبواب السمع والأبصار والأفئدة، لتلج بحب أو بغض، وبنصح أو مكيدة، وبنور أو ظلمة، وما بين الغايتين مسافات على قدر في القرب والبعد، يكون معها اللبيب فطناً لا مخدوعاً بزخرف القول، ولا مهوساً بوساوس الترصد، فالفرقان قائده أن يكون كما عمر رضي الله عنه حين قال: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني).
وقياس صدق اللهجات ونصح الألسنة لا يحتاج إلى دقة مجاهر، ولا موازين رقمية، بل الظاهر العام كاف في الفرز والتعرف.
فالصادق تضيء أنوار صدقه مع كل همسة وحركة من صوته، ولو تعثر الحرف، وأخفق التعبير، وتلعثم اللسان، فتقال له العثرة، ويصان له جميل القول والفعل.
أما النافث سماً في العسل، والمعطي من طرف اللسان حلاوة ليمرر المر العلقم، فمهما تكلف زخرفة القول، وتنميق الكلمة، فإن الظلمة قائدة، والوحشة قابضة، وسينشر اللحنُ الغالب القصدَ المطوي، وكما قال تعالى: (ولتعرفنّهم في لحن القول).
وإن المبطلين في حال تواص باللسان الناصح زوراً وبهتاناً، بداية بكبيرهم الذي خدع الأبوين بلسان المشفق في النصح كذباً وزورا، كما قال الله تعالى عنه: (وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين)، وفرعون الذي جهر بلسان يقطر نصحاً زائفاً حين قال عن موسى عليه السلام: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، والمشركين الذين قرروا أظلم الظلم في عبادة غير الله بوصف حالهم مع الأصنام ب:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، والمنافقين الذين برروا أقوالهم وأفعالهم ب: (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا).. وهكذا تتعاقب الأجيال والوصية متناقلة.
لذا يجب أن تتميز الألسنة الصادقة في نصحها وحبها عن تلك التي تمد جسور الزيف والتزوير بالتلون والشبه، وليس في هذا دعوة إلى الالتفات إلى أسوأ ما يحمل عليه الكلام، ولا أن يرد الحق ولو جاء من عدو.
كلا، بل يقبل الحق، ويرجع إليه، ويبقى العدو عدواً، على حديث: (صدقك وهو كذوب).
وإن من السبل المطروقة في ذلك اللي والتزييف ما تحكيه بعض الألسنة من مسائل الخلاف، ليس وقوفاً مع راجح بدليل، ولكن تقريراً لرأي يراه إلى مبتغاه أقرب وصولاً، وأسرع مجاوزة، وأدنى إلى رفع ستور مرخاة.
فأنا أتفهم جيداً لمتكلم في مسألة خلافية، وهو دائر مع الدليل وأقوال أهل العلم، وإن خالفته وضعفت قوله. لكني أجدني لافظاً صوت متكلم في هذا الخلاف وأحرفه تتراقص على أنغام المخالفات الشرعية، وأسطره تتمايل لساقطين وساقطات ثناءً وتمجيداً!! فأي معنى يريده من هذا وهو دون الأضعف قولاً بمهاوٍ سحيقة.
فههنا فرقان لا بد منه في الأخذ والعطاء، والقبول والرد، متأملين قول الله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون).