هذه العبارة التي جاءت في عنوان هذا المقال ليست من مقولي، وإنما من منقولي. ففي برنامجه التلفزيوني ذائع الصّيت (الحياة كلمة)، والذي بثّته قناة الmbc الجمعة الماضية، تحدّث الشيخ الدكتور سلمان العودة عن نجاح حج هذا العام، وأسهب في الحديث عن المنشآت الضخمة التي شيّدتها حكومة المملكة سواء في الحرم المكي الشريف أو المشاعر؛ وأشاد على وجه الخصوص بتوسعة خادم الحرمين الشريفين الأخيرة للمسعى التي كان البعض قد اعترض عليها، وجعل منها قضية؛ يقول الدكتور العودة بالحرف: (ونحن نستمتع بالسعي في التوسعة الرائعة للمسعى نتذكّر بعض الأصوات التي كانت تعترض عليها فندرك أنّ الناس فعلاً بحاجة - أحيانًا - إلى من يقهرهم على لون من الخير والتوسعة، التي ربما تضيق بها نفوسهم أول الأمر ثم تتقبّلها بعد ذلك)!
وهذا ما كنا نقوله ونؤكده مراراً وتكراراً؛ فهناك كثير من القرارات التي قد لا تتسع لها مدارك البعض في البداية، فيرفضونها دون دليل أو قياس أو تصوّر للمتغيّرات على أرض الواقع، وربما يلوون أعناق الأدلة لتتوافق مع آرائهم الممانعة؛ ثم، ومع مرور الزمن، تجدهم يتأقلمون عليها، ليكتشفوا في النتيجة أنهم كانوا فعلاً مخطئين، حتى وإنْ لم يعترفوا جهاراً بخطئهم؛ وتوسعة المسعى إحدى هذه الأمثلة، وأكاد أجزم أنها لن تكون الأخيرة. وعندما تستعرض القضايا التي رفضها بعض المتشدِّدين في البداية، ثم قبلوها في النهاية، تجد أنها من الكثرة إلى درجة تجعلك تتساءل: لماذا لا يتعلّمون من أخطائهم؟
وهناك من يجادل في بعض القضايا (التنموية) وحجّته أنّ الأكثرية في المجتمع لا تقبّلها؛ لذلك يجب علينا الانتظار حتى تستوعب الأغلبية مثل هذه القرارات. لنفترض صحة ذلك جدلاً، ونقبل على سبيل المجاراة مقولة إنّ هناك بعض الخطوات والقرارات التنموية مازالت الأكثرية في المجتمع ترفضها، أو هي غير مهيّأة لقبولها. طيب؛ ماذا لو أنّ الدولة طرحت - مثلاً - تعليم المرأة قبل ما يقارب خمسة عقود مضت للتصويت، هل كانت الأغلبية آنذاك مع هذا القرار أم كانت ضده؟.. كانت ضده بلا ريب؛ فقد كانت الوفود تتوالى من المدن الصغيرة والقرى والأرياف إلى الرياض معلنة معارضتها لهذا القرار، بل إنّ بعض المناطق اضطرت فيها الدولة إلى فرض تعليم المرأة بالقوة المسلّحة كما يقولون، عندما حاول بعض المتشدِّدين إحداث بعض أعمال الشغب تجاه تفعيل هذا القرار الذي كان من أهم القرارات التنموية في تاريخ المملكة. وكذلك الأمر بالنسبة لاستقدام القوات الأجنبية للوقوف في وجه الأطماع الصدامية في بداية التسعينات من القرن الماضي، وتحرير الكويت. فقد شنَّ كثير من الوعّاظ وخطباء المساجد حملة منظّمة ضد هذا القرار، إلى درجة أنك لو حاولت آنذاك تلمُّس رأي (الأغلبية) لكانت قطعاً ضد الاستعانة بالقوات الأجنبية. ولك أن تتصوّر حجم (الكارثة) التي ستحل بالبلاد والعباد لو أنّ الدولة أبان تلك الأزمة رضخت لرأي الأغلبية، ولم تستقدم القوات الأجنبية للوقوف في وجه أطماع ذلك الطاغية المجنون!
وقبل الختام أقول: قد يكون رأي الأغلبية في دول العالم المتحضّر الواعي مقبولاً، ويمكن التعويل عليه، أما في دول العالم الثالث، فنحتاج في كثير من الأحيان إلى فرض التنمية فرضاً على الناس، فالقادة الحقيقيون، وخاصة في الدول التي هي في طريقها للنمو، يقودون مجتمعاتهم نحو الحضارة والتنمية، ولا ينتظرون قناعة (الأكثرية) عندما يتخذون قراراتهم التنموية المصيرية؛ فالقائد العظيم يمشي أمام المجتمع لا خلفه. هذا ما يقوله التاريخ.
إلى اللقاء.