أسبوع أول:
كانت الطعنة طازجة متوهجة وطعمها يشتعل مرارة ولذة يشبه رعباً معتقاً في الذاكرة فلا يجفل الجسد المجرب لواعج الابتعاد ويتدفق الدم بعذوبة تشيع في حلكة الحجرة مساحات ضوئية شاسعة.
لم يكن الوقت قد تدخل بعد لإفساد لذة الفجيعة أو تواطأ عكس انتظام دقات القلب.
كان منسوب السراب لا يزال عالياً في الدم.. وحبوب السكر لا تزال تعمل بنشاط على منع احتمالات الدخول في غيبوبة مؤقتة أو أبدية، كانت وجوه البنات الأبناء، الجيران والأصدقاء بعد قريبة ضاجة بنوافير اللقاءات اليومية والمواعيد.
كان إحساس جماعي بالعشق يبدد وحشة النوم والصحو بعيداً عن كهرمان عيونها واندلاع ابتسامتها ومشاحناتنا العابرة وحبها الدباح وآفات غيرتها ورائحة شعرها بعد الاستحمام ونكهة طبخها وعسل شفتيها وصراخها على الأطفال وصبرها معي.. ولم أعلم أنني مجرد غر في الهوى لم أغادر مواقع الحب الأول، وكل ما قد أملكه من أسلحة العشاق شجاعة الأخيلة وطيش الشعر أشهره على الأشهاد لمقاومة الشفاء من براثنها ونفثها وتكرار الوقوع طائعاً مختاراً في شراك سحرها.
أسبوع ثان:
من سمى الولادة الساعة المنسية لم يجرب آلام الولادة وتشقق الأوردة وتمزق الشرايين مع كل موجة صاعقة من أمواج الطلق.. من ظن الشعر إلهاماً لم يعرف التعرق من أعلى حبال الرقبة إلى أخمص مشط القدم وجر الروح خارج غلالة البدن على أشواك مكهربة.. هكذا أتدرب بصمت على تجريب أعنف ما جربته الإنسانية من أحاسيس سامية وسادية فلا أجد في اللغة ما يعادل التعبير عن تلك الحالات من الخيلاء.
تلدغني عقارب الوقت وتعانقني أفاعيه مدلية أعناقها اللينة في رئتي تمتص ما في صدري من بقايا هواء بينما أمتع حاسة البصر بالألوان القزحية الممتقعة التي تحفز تلوياتها مسام بدني على إفرازها.. أنغمس في متع عد اختراقاتها لصخرة الجدار فمرة تدخل ببشرتها المشربة بسمرة العناب ومرة بغمازة ذقنها المقطرة من أقحون القمح ومرة ببروق قامتها والتماعات مكرها ومرة بسواد شعرها وحلي لمساتها ومرة بحليب نحرها فانشغل عنها وعني بملاحقة أطيافها التي لا تعد ولا تحصى، وأتأكد أنني مازلت على العهد وأنني ما زلت أحيا.
أسبوع ثالث:
صرت أكيد للمسافة الفاصلة بين دقات قلبها وقلبي بكتابة أشكال متخيلة من قسوة الرحيل على المساحات التي لم تأكلها الجدران من جلدي.. فأكون محمولاً على أكتاف تمضي بي في صمت إلى قبري دون ريشة ترف من كفها على كفني ودون أن أعلم دواعي قتلي.. أكون في بلاد مكللة بالثلوج أنتقي لها معطفاً من فرو الرنة يليق بفحيحها في بردي وقيظي.. أدخل حروباً غير عادلة لتخليص خلاخل رجلها من أظلاف قذرة تنهش كبدي لمجرد تصريف فائضها من الجنود والأسلحة والشعارات.. أجوب قارات مجهولة وأتيه في فلوات محروسة بالجن وأهلك على طرقات ملغمة تفتك بي الغربة وتقرح ركبي المسامير من أجل أن أجلب لها خواتم بمقاس أصابعها العالقة في جهازي العصبي.
أتخيلها وأتخيلني وقد تقاسمنا ملح التراب وخبز النخل فمن الذي وشى بيننا وأحل لها التشكيك في ما ألقى في سبيل شموخها من صبابات ومن وجد.. ما الذي حل بينها وبيني لأستحق فاجعة الفراق، لعنة الإبعاد، شماتة الأعداء، توجس الأصدقاء ملامات أمي، تعنيف أبي ومن يجهلون تتيمي بصحرائها وبحرها بأرضها وسماها بقحطها وغيثها في علانيتي وسري.. فعلى من غير الله أشكو بثي وحزني.
أسبوع رابع:
كلما اقترب الصيف اشتدت الشمس على قفري.. أقرأ صحفاً كما قال الشاعر التونسي المزغني يابسة كالأرغفة البائتة أو هكذا تنزل الكلمات والمنشتات والأخبار في بلعومي فتكاد تسد مجرى أنفاسي.. أخبار احتلال العراق أخبار الحصار والتقتيل الإسرائيلي لشباب وأطفال فلسطين، أخبار عن أبو غريب ومعتلقي جونتنامو وفضائح مستترة أخرى، أخبار تفطر القلب عن انفجارات ومطاردات لم تعتدها تلك الشوارع التي كانت ترفل في التآلف والوداعة، ما يقارب أعمار عدة أجيال قبل هذا التحول المريع غير المعهود.. أستمع إلى نتائج البنات والأبناء وأدعو الله من الأعماق أن يكونوا حقاً لم يخيبوني، أستعيد بصمات أصوات الأصدقاء تلك التي كانت تصلني من الهاتف فأعرفها عن ظهر قلب مثل معرفتي لقصيدة مالك بن الريب اليتيمة لشدة تفرد نبراتها وإيقاعها وبحتها.. أعيد بكاميرا الذاكرة قراءة كتب كنت أريد قراءاتها قراءة ثانية.. أسرج قناديل أسماء ووجوه وضحكات ودموع وقصص، وأدير معها حوارات حارة.. وحين يجرح جفوني السهر آخذ نفسي من يدي بيدي إلى داخل نفسي وأبدأ بالتنقل بين بساتينها وحقولها وخرائبها بين يابستها وأنهارها، بين خلجانها وبرازخها ومضائقها وآفاقها في فتنة من مباهج الأحزان وسورات الغضب وحبور الأحلام وبوارق الآمال وبهاء الهزائم وزهو التحليق في فضاءات من حريات لا تحد.
أمي
حين تحاصرني الهموم
ويحتبس دمي
في جدران الجسد
حين يحك السقف
قاع جمجمتي
ويشخب نخاع عظامي
من أطراف شعري
إلى آخر سلسلة ظهري
حتى يغوص كعبي
في السائل الحارق
وتكتوي بالحلي حبال نحري
حين روحي من ورائي
تواعد حتفي
تحضر أمي
ومعها مفتاحها السحري
حين يرعبني التنقل بين المراحل
تحضر أمي
وتنفث ترياق ريقها
في سنواتي
تنزع لي
من مخالب
الوقت
عمراً
جديداً
لعمري