لم أكن أعرف عن وجود عدة أنواع من الإسلام حتى شاهدت قناة دليل الدعوية يوم الجمعة السادس من ذي الحجة لهذا العام. كنت أعرف عن فروع متعددة لشجرة واحدة هي الإسلام الأصل الذي نزل به الوحي والأمر على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لا إسلام غير ذلك. أي إسلام آخر يدعي الانتماء إلى الأصل مثل البهائية والباطنية وإسلام الحاج إيليا محمد والإسلام السياسي يتبرأ الإسلام منه براءة العلوم البرهانية الاستدلالية من الخرافات والشعاوذ والأساطير . على نفس السياق كنت أيضاً أعتقد أنني أعرف أن الإسلام يزخر بأنواع عديدة من الاجتهادات الفقهية، بعضها مصنف ضمن فقه التشدد والآخر ضمن فقه التيسير وكلها داخلة ضمن السياق الإسلامي والحضيرة الإسلامية.
في قناة دليل كان برنامج ذلك اليوم (البيان التالي) يناقش قضايا فقه التيسير وهل هو فقه تغريب وتمييع وتساهل أم فقه الوسطية التي هي الأصل الشرعي الأكثر تفهما لتغير ظروف الزمان والمكان والأحوال. دار النقاش وجهاً لوجه بين المذيع وأحد هيئة كبار العلماء الشرعيين -حفظهم الله-، وهاتفياً مع بعض الأساتذة المجتهدين في العلوم الشرعية هداهم الله لما يحبه ويرضاه وزادهم تفقهاً وعلوماً ومعارف. تشعب النقاش وتطرق إلى بعض الاختلافات المتوقعة بين أطرافه. أحد المشاركين هاتفياً قال بوجود فقه تيسير صالح وفقه تيسير فاسد وفهمت من خلال كلامه أنه يقصد بفقه التيسير الصالح فقه التشدد لأن هذا كان حقيقة محتوى كلامه. إجمالاً كان النقاش لغير المتخصص مفهوماً وواضحاً وعلى درجة كبيرة من الأهمية، لكن الطرح لم يصل إلى درجة الإقناع والاقتناع لي كمشاهد بقدر ما وصل إلى الاتفاق على المصلحة الواحدة للأطراف المشاركة في النقاش.
أمران تم طرحهما في النقاش لم أقتنع بهما كمشاهد وكمستمع، والمشاهد والمستمع هما الهم الأكبر لكل نقاش. الأمر الأول هو قول عضو هيئة كبار العلماء الموقر أن كل الأطراف الداخلة في نقاش ذلك اليوم، ومهما اختلفت آراؤها حول الوسطية وفقه التشدد والتيسير يضمها خندق واحد في نهاية المطاف. وددت لو استطعت سؤال فضيلة الشيخ عن الخندق المقابل ترى من هم المتخندقون فيه. لا يتخندق أناس هنا إلا لأن ثمة متخندقين هناك. بالمفهوم الأوسع والأشمل يجب أن يكون الوطن كله خندقاً واحداً للجميع ضد من يريد شراً بوطنهم وبهم خدمة لمصالح الانتماءات الواقعة خارج الجغرافيا واللغة. أوليس الدين واحداً لنا جميعاً لا يحض على افتراق الخنادق في الوطن الواحد؟.
الأمر الآخر هو ما قيل في البرنامج بأن أمريكا تريد إسلاماً بلحية وعمامة بشرط أن يكون على نمط الإسلام الأمريكي المتعايش مع المصالح الأمريكية. كان في ذلك القول تعريض مبطن لم ينتبه له المشاركون في النقاش أو أنهم انتبهوا له وأعرضوا عنه درءاً للشقاق والاختلاف بين أصحاب الخندق الواحد. مرة أخرى كنت أود التوجه للمتناقشين بهذا السؤال: عندما هدم الغرب الأبواب والأسوار ودخل غازياً إلى الديار الإسلامية، أي نوع من الإسلام (إن كانت هناك أنواع) كان سائداً آنذاك، وأي نوع من أنواع الاجتهادات الفقهية كان مطبقاً في ديار الإسلام؟. هل كان السائد في حينه، وما يزال، فقه التيسير التقدمي المنفتح أم فقه التشدد المحافظ المتترس خلف جدران الماضي.
تحت أي اجتهاد فقهي تم تحويل الشعوب الإسلامية إلى شعوب استهلاكية مستضعفة لا تفكر ولا تصنع ولا تزرع ونصفها معطل عن الحياة الاجتماعية الإنتاجية، هل كان ذلك تحت فقه التيسير أم فقه التشدد؟.
لماذا ترغب أمريكا، وهذا هو السؤال الكبير، في تغيير نوع الإسلام والفقه السائد بينما أمورها معه على ما يرام والشواهد على الانسجام بارزة في كل مكان، بما في ذلك الانسجام مع فقه الإرهاب الذي يخدم أمريكا استراتيجياً ويتخذ ذريعة لضرب المسلمين بالمسلمين ويخزيهم أكثر من أي فقه آخر؟.
في الختام أعتذر أصالة عن نفسي لإخواننا المسلمين على الطريقة الأمريكية (كما يجنح البعض إلى تسميتهم) عما قد يحسون به من إساءة لفرزهم وتصنيفهم ضمن إسلام مختلف وشعورهم بالإقصاء. إنني أحسب أنهم هناك في غربة الزمان والمكان والأحوال كالقابض على الجمر في سبيل عقيدته، فارحموهم يا من تصنفون الآخرين حسب أهوائكم وأنتم على (كنبات) أمريكية متقابلين وتتخاطبون وتتواصلون عبر أجهزة تغريبية لم تصنعوا فيها مسماراً واحداً.