بالتأكيد ليس من باب الصدف أن يتمتع الدبلوماسي السعودي بقدر كبير من المعارف والعلوم، إذ العمل الدبلوماسي الناجح يستدعي التسلح بتلك المعارف مع ذاكرة حاضرة وقّادة، وقد أفلحت الخارجية السعودية باختيار نخبة من الدبلوماسيين المثقفين الذين سجلوا إعجاب المثقفين في البلاد التي مثلوا فيها، ولعل من الأسماء التي تقفز إلى الذهن في هذا الخصوص الوزير الدبلوماسي علي الشاعر والدبلوماسي المخضرم الدكتور الوزير عبدالعزيز الخوجة والدبلوماسي الذي حفر اسمه في ذاكرة كل سعودي الدكتور الشبيلي والسفير الرائع الدكتور بشير الكردي الذي كان ينعته معالي الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي رحمه الله بالدبلوماسي المثقف.. وغيرهم كثير ممن ضربوا أروع الأمثلة في الدبلوماسية الثقافية، ولعل من أبرزهم سعادة سفير خادم الحرمين الشريفين في المملكة المغربية الدكتور محمد بن عبدالرحمن البشر الذي عرفه المثقف السعودي من خلال كتاباته في الصحافة كاتبا من الطراز الأول، كما عرفته الساحة السياسية دبلوماسياً محنكاً مفتاحاً للتواصل مغلاقاً للقطيعة.
يعد البشر قناصاً ماهراً، يجيد استقطاع الأزمنة رغم انشغالاته الدبلوماسية بكل متاعبها، فقد سبق أن قدم للقارئ العربي كتابا عن جمهورية الصين هو من أجمل ما كتب عن الصين، أرخ وحلل وأبان، وما إن استقر به المقام في المغرب الحبيب حتى سطر يراعه أروع ما يمكن أن يكتب عن الأندلس ومآسيها فأخرج حقباً من تاريخ الأندلس في سفر رائع اختصر الأسفار المطولة عن الأندلس بذكاء الدبلوماسي، وإنصاف العالم، وعمق المؤرخ، وحكمة الخبير اليقظ حيث انكب على النصوص التي اقتبسها من تلك المصادر الأصيلة دراسة وتحليلا وفحصا دقيقاً بقصد الوصول إلى الغايات التي تظهر الأسباب الحقيقية لتلك المآسي التي تدمي القلب والتي تبعث على الحسرة.. ولقد أجاد الكاتب فأبرز ما أراد بعبارة مشوقة سهلة ممتنعة، وللحق حين قرأت «مآسي الأندلس» ظننت أنني أقرأ رواية ممتعة ولم أشأ كغيري ممن قرؤوه إلا أن أنهيه تماما حتى الغلاف، ولا أبالغ لو ادعيت بأن البشر قد نقلني إلى الأندلس لأعيش الأجواء التي آذنت بالانتكاسة كما هي، وجعلتني أتساءل ألم يكن في القوم حكيم يحذر من المستقبل الآيل للسقوط؟! لقد رتب الكاتب الدبلوماسي المؤرخ الأحداث بصورة واضحة ونبش في بطون المصادر بحكمة، والتقط الأحداث التي عليها بنى سفره والتي منحت النتيجة المتوقعة للقارئ قبل وقوعها وكأنه يحذر من أندلسيات أخرى قد تكون آيلة للسقوط.. فكانت لوحة واضحة المعالم رسمها بذكاء الدبلوماسي الذي يسعى للبناء لا الهدم، بناء محكم راسخ لشراكة مستقبلية لفائدة الإنسانية .. لقد أبرز ما رأى أن فيه الجمال والمستقبل، وكان شفافاً بوضوح، أديباً ينتقي الكلمة من قاموس مليء بالمفردات والصور والألوان.
وللحق فإن فضل تعريفي بهذا السفر العظيم يرجع للمثقف المغربي الذي اختار كتاب سعادة السفير الموقر ليكون موضوع الندوة التي أقامتها مؤسسة الإرث الأندلسي في فاس بعنوان قراءات في كتاب «مآسي الأندلس» للدكتور محمد عبدالرحمن البشر، الذي تشرفت بحضور اللقاء حين علمت وأنا في الرباط بأن الندوة ستعقد بعد يومين في فاس فما كان إلا أن عمدت على تأخير العودة إلى أرض الوطن حتى أشنف سمعي وأكحل نظري بما سيقوله المثقف المغربي عن علم من أعلام بلادي وعن سفر من الأسفار كان نتاج مثقف من بلادي..
لقد سخرت مؤسسة الإرث الأندلسي لهذا الكتاب جملة من المتخصصين في الأدب والتاريخ الأندلسي الذين رسموا بيراعهم أجمل لوحة حملت اسم البشر صاحب الوجه المبشر، وبحضور شرائح متنوعة من الدبلوماسيين والمسؤولين والمثقفين الذين ملأوا القاعة، وللحق أيضاً فما من كلمة نطقوا بها أو نعت نعتوا به الكاتب أو ثناء على مضمون الكتاب إلا وقلت لا فض فوك ولا لثمت ريشتك أيها البشر فقد زينت صدر كل سعودي بوسام رفيع، ووضعت تاج العز المرصع بالجواهر واللجين على هامة كل مثقف.. فما أعظم أن تجد ممثل وطنك يحتفى به بحضور ثلة من أرفع مثقفي البلاد والكل يتفق على سمو المكانة وعلو الهمة وإبداع الفكر السعودي والدبلوماسية السعودية..
هنيئا لك أيها الوطن هذا الابن البار.. وهنيئا لك أيها المثقف السعودي هذا العلم.. وهنيئا لك أيها المواطن هذا التمثيل الدبلوماسي الرفيع.. وشكراً لك أيتها القيادة الحكيمة في هذا الاختيار.. وهنيئا لك الفردوس المفقود هذا الوفي الذي أبرز مآسيك ليتبعها بمباهجك وبرجالاتك كي يخلدك في التاريخ بيراع من نور..
- أكاديمي سعودي