لقد كان من أهم الإنجازات التي حققها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، حينما وحد هذا الكيان العظيم المترامي الأطراف: بمناطقه وقبائله وأطيافه، تحت...
... راية واحدة، هو تذويب كل ما من شأنه أن يفكك وحدة الأمة، ويزرع الشك، ويكدر اليقين، ويشيع البلابل، ويصنع القلاقل، فقام بصهرها كلها، وجعلها فاعلة في خدمة الدين، والوطن، حتى ضربت البلاد أروع الأمثلة في النسيج الاجتماعي المتماسك، والقائم على رعاية المصالح الدينية والوطنية، كأحد أهم المقاصد والأهداف التي تسعى إليها الأمم المتحضرة، والقيادات الواعية، وكان من أهم البرامج التي قام بها -رحمه الله- هو ترويض العُنصرية القبلية الملتهبة آنذاك، والقضاء عليها وعلى تبعاتها وذيولها ومخلفاتها المدمرة، التي كانت تمثل عقبة من عقبات التطور والاتحاد والبناء والترابط، بنظرتها القاصرة، والتي قد لا تتجاوز محيط مضاربها، وأدبياتها القائمة على تكريس مبدأ الانقسام من خلال الاحتراب (القبلي.. القبلي) واستئجار الزعامات القبلية لأتباعها من شبابها ورجالاتها لتقديمهم قرابين على مذابح أهوائهم وأطماعهم، بدافع الانتقام والثارات فيما بينها، فيلجؤون كثيراً إلى خيار السلاح والتدمير مع الآخرين لأجل شاة أو بعير، وهم أمة واحدة، وقد سجل لنا التاريخ البعيد والقريب شيئاً كثيراً من مآسي العنصرية القبلية، والعصبية الجاهلية ما يُنكي القلوب، ويؤلم النفوس.
فقام الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بترشيد النظرة إلى هذه القضية الحساسة، فتعامل على أن القبيلة أمر يفرضه الواقع، والانتماء إليها أمر لا يمكن انتزاعه من الفطرة، فالوطن أغلبه قبائلي، ولا يمكن تجاهله بحال، ولهذه القبائل تاريخ طويل لا ينكر، ولكن هذا لا يعني بالضرورة السماح لأن تطغى العنصرية القبلية، فتكون سبباً من أسباب تصدع المجتمعات، وتقهقر الأمة وتخلفها، بل العلة التي ذكرها ربنا منْ جعل الناس شعوباً وقبائل: ليتعارفوا بينهم، قال تعالى: ?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?، والتركيز على أن أصل التفاضل إنما هو بالتقوى كمعيار للتعامل مع الآخرين، حتى لا يتوهم الناس أن التفاضل يكون من خلال الشعوب والقبائل.
فكان من أهم الخطوات التي اتخذها المؤسس رحمه الله هو تطويع هذه القبائل، وجعل الناس كلهم تحت حكم الله، وقد جعل الشرع إطاراً مرجعياً لجميع أطياف المجتمع السعودي، وأنه الفيصل في قضاياهم العامة والخاصة، الذي تطمئن به النفوس، وتنزاح الحدوس، ويحصل الأمن الذي هو مطلب الجميع، وقد حصل له ما أراد، حينما اختصر هذه العملية، فلم يحتج إلى دراسات فلسفية، ولا معاهد في التخطيط والإبداع، فكان هذا المشروع في تقديري يمثل منجزاً عظيماً ومبهراً في هذا العصر، بل يمكن القول إنه من أهم وأعلى المنجزات التي يمكن أن يقدمها حاكم لأمته!! والمتقرر أن التدين الصحيح هو قادح شرارة الإقلاع الحضاري عند الأمم، التي حققت شهوداً حضارياً، خاصة في هذه الأمة المحمدية، فحينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، كان شعار أغلب الناس:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وفي وقت قصير أصبح خصوم الأمس الذين ما زالت جراحاتهم تنزف من الاقتتال بينهم والذي لا يحمل هدفاً!! أصبحوا إخوان اليوم لتتصاعد محبتهم وأخوتهم فتدفع بهم إلى هدف واحد هو خدمة دين الله جل وعلا، والمحافظة على مكتسبات الأمة، جاعلين من العصبية الجاهلية التي كانوا يعيشونها محلاً للتندر على غياب عقولهم، واستسلامهم للشيطان، في عملية سجلها القرآن الكريم، متفضلاً ربنا جل وعلا على نبيه، حيث قال: ?لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ? فهذه الآية تشير إلى أن قضية اجتماع هذه القبائل ليست بالعملية السهلة، بل هي عملية تستغرق جهداً ووقتاً طويلاً، ولولا توفيق الله لما حصل من الاجتماع الذي يمثل معجزة من المعجزات، وصدق الله: ?وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ?. بل إن ربنا جل وعلا يريد من عباده استذكار هذه النعمة على الدوام، واستصحابها على كل حال، وشكره سبحانه على ذلك، وينبه إلى ضرورة التمييز بين الفترتين والمرحلتين بقوله: ?وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً? حتى يُغلب الناس جانب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وليعلو التعاون بينهم على الأنانية والفردية، فكان التدين الصحيح سبباً قوياً ومؤثراً في ترشيد العصبية، وجعلها جميعاً متحدة الهدف والغاية وهو خدمة الدين والوطن.
ولا يخفى أن نعمة الاجتماع التي نعيشها في بلاد الحرمين الشريفين، نعمة لا تقدر بثمن؛ فالطاعة مبذولة، والأمة متماسكة، والأمن يضرب برواقه، وهذه كلها جعلت عرق الحسد ينبض في صدور الشانئين والمتربصين بهذه الأمة، وقد صوبوا سهامهم من كل جهة، ليفتوا في عضد هذه الأمة، فارتدت سهامهم إلى نحورهم -ولله الحمد والمنة-.
وإن وجود الترهل والضعف في الأمة يأتي غالباً من هذا المسرب الخطير، وذلك حينما يسمح للشعارات العنصرية أو التعصب القبلي الأعمى أن يقدح زناده عبر منابره المختلفة، من خلال قصائد الهجاء والفخر على الآخرين، ومحاولة استدعاء الماضي المليء بالدماء والفتنة عبر قصائد وقصص يراد منها تحريك الساكن وجعل عرق الفتنة ينبض بالكراهية والحقد، ومن خلال توجيه شبكة العلاقات الاجتماعية السلبية لتكون منحصرة بين أفراد القبيلة فقط، ليهدد النسيج الاجتماعي المتماسك، وليعيق حركة التنمية المتصاعدة، وليضرب الأمة في قلبها، وليدفع بالأمة إلى مزالق الانهيار، ولذلك هتف النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أصحابه قائلاً: (دعوها فإنها منتنة) حينما تنادى المهاجرون والأنصار (يا للمهاجرين.. ويا للأنصار) وحاولوا الاشتباك بسبب مشكلة بين غلامين على أمرٍ تافه، مع أن اسم المهاجرين والأنصار: اسمان شرعيان وردا في القرآن والسنة، ولكن لما كان التعصب لهما بغير الحق، كان رد النبي صلى الله عليه وسلم قوياً ورادعاً، حينما عبر عن هذه الانتحاء (بالدعوة النتنة) في أصوب القولين عند أهل العلم في معاد الضمير.ولذلك ينبغي الوعي بالمستقبل، والحيلولة دون تآكل الأمة، ورفض الرجوع إلى الوراء واليقظة التامة من تسلل هذه الثقافة إلى شبابنا ومواطنينا عموماً، ولا بدَّ أن يكون هناك شعور جماعي بضرورة العمل على معرفة معنى ومفهوم الجماعة والاجتماع، التي تظافرت نصوص القرآن والسنة في الدعوة إليهما والتأكيد عليهما، وما لهما من الآثار العاصمة -بإذن الله- حاضراً ومستقبلاً، وفهم معنى الفرقة والاختلاف ونتائجها، وذلك باستقراء التاريخ واستنطاق الواقع المرير الذي تعيشه كثير من الشعوب ممن حولنا.
ولا بدَّ من نشر ثقافة المقاصد الشرعية عبر جميع المنابر، حتى يتأهل من ليس مؤهلاً، ويصبح جاهزاً لرفض أي فكرة تدعو للانسحاق الداخلي أمام أية إرادة بشرية داخلية أو خارجية، قد يتستر بعض رموزها تحت شعار الإصلاح مثلاً، وليكون المواطن دائماً قادراً على تحقيق الفعل الحضاري المثمر، وذلك بمعرفة نعمة الاجتماع، وخطورة الانقسام، وأن يرضع أولادنا هذا المفهوم عبر المناهج التربوية منذ نعومة أظفارهم، وأن ترتقي النخب الشرعية والثقافية بخطابها الشرعي والإعلامي، وأن يكون متوازياً مع الحدث، بعيداً عن كل المؤثرات، والانفعالات، وأن يكون تناول هذه القضية تحت مظلة الشريعة الإسلامية، لأنه من المجزوم المحقق أن السيطرة على هذه النعرات والجاهليات لا يتم ولا يمكن أن ينجح إلا تحت مظلة الشريعة، وكل محاولة غير ذلك فستبوء بالفشل، مع هدرها للوقت الثمين!!حمى الله بلادنا ووقانا شر الفتن!!
مدير مركز الدعوة والإرشاد بدبي -