المسافات تقطع بالوسائل.. وأدوات الرحلة والمرحلة.. بداية بالدواب.. مروراً بالسيارات والقاطرات.. وصولاً بالطائرات. ونهاية كما أراد شاعرنا بالبراق.. الذي يختصر مساحة الدرب بأقل الجهد.. وبأقصر الوقت..
ترى أي براق حمل شاعرنا إلى عالمه الخاص.. وأية مشاهد وشواهد أمكن له الدلالة عليها.. والدليل بمواقعها وواقعها؟!
لن ننتظر طويلاً الجواب منه.. فبين يدينا ما يعرفنا على ما نبحث عنه.. ونطلب المزيد منه..
بداية جاءت الإشارة الأولى.. أي الخطوة الأولى «الرحيل العربي»..
راحلون..
مغرب الشمس لنا وجه حنون..
راحلون..
إلى أين الاتجاه يا شاعرنا؟ وبأية أسباب تأخذ؟!
ما أخذنا بيد الخارق أضلاع السفينة
والذي ضيّع أبواب المدينة
يسأل الناس علاما يخرجون من سراديب العيون؟!
ونحن أيضاً بدورنا نسأل في لهفة: ويأتي بعض جواب..
كل زوجين على ظهر السفين
ليس منا من له قلب.. وأغمضنا الجفون
عن قذى يفتلق الصبح ويلقي بالمنايا والخطايا
من بغاث ينسلون..
أعادنا شاعرنا بالذاكرة إلى سفينة نوح.. لا إلى البراق الذي قد يأتي في مرحلة لاحقة:
ما توكأنا على ممر.. ولم تقبض أيادينا السنون
وراح يعدد لنا مواطن الشكوى.. بكاء أرض عارية تكذب أهلها.. وداء سل يفترس الأجساد.. وسنين سبع عجاف.
وأشياء تأتي ولا تأتي مغلقة بالمكر والخديعة ومدينة دون أبواب لأن أسوارها مهدمة. لهذا قرر الرحيل:
عندما تشتعل الشمس وتطفي نارها
عندما تحتضر الروح.. ونبني دارها
فوق خمس مستهلات المزون..
عندها أزف الرحيل.. ولم يقل لنا شاعرنا إلى أين؟ وأين هو البديل من كل هذا العناء؟!
يبدو أنه اختار محطة أخرى لا تقل إيلاماً من محطته الأولى عليها لافتة تقول.. «في أنف حضرتكم بعوضة»..
قالوا كرامتها سراب..
أما هو.. يقول:
أعطيه جائزة ولا تستأذني من ميت
غنى على صوت الرصاصة ألف أغنية
باسم السلام.. وأنه.!
لقوي أهدى سلاحه المعتل إلى ربيعة. وإياد، ونزار. ومضر.. إلى القبائل كمن يهدي خنجراً مسموماً غرس في خاصرته لم يأبى «السم» لأحفاده.. نمرود هذا الزمان.. وسلام استسلام.. ودبلة زواج غير شرعي ممن يجادلون أنبياءهم.. تفتح بوابة الوهن في الجسد العربي الممزق.. بعد سقطة قنصته الكبرى في اتفاقية الكامب.. وبقي المذنب دون تكفير تاركا للبعوضة حرية امتصاص الدم من أنف كل عربي.. رغم أنفه بعد أن فقد الأنف.!
تاريخ الأفعال إحدى محطاته براقه!
عند الصباح تخون عورتك العيون
تصد عنك.. ولا تبوح.. جوف العراء..
لأن النهار نهار لا ظلام فيه يحجب المستور
خلفك الماضون فروا من كمائنهم. وباعوا موتهم للدائنين
لأن لا في حياتهم ما يمكن إعطاؤه مقابل الدَّين الذي قصم الحياة من الوريد إلى الوريد.. الدائنون جلادون حين لا يجدون مالاً يطلبون لحماً.. وحين يفتقد اللحم يطالبون بالعظم بعد خروج الروح من جسدها.. يطالبون وهم آمنون.!
لهذا وهو المدين آثر أن يفترس العبوس..
شقائق النعمان.. أو ماء السماء ملافظي جفت
تبدلت البحار وغيرت أسماءها..
من أبيض إلى أسود. إلى أحمر.. إلى آخر ميت لا حياة فيه.. أليست بحاراً تتأثر بحال عالمها تستقي منهم عمى الألوان واللون واحد.
كل البيوت قوارب فتقتها..
بدمي وسايرت الوريد
من الآن تبحث أمة في قصعة
في الآل تبحث أمة في ملعقة
كوجبة جاهزة وشهية لأفواه الآكلين.!
ماذا قال شاعرنا محمد المنصور عن الرحى..!
تخز العمياء جلداً خارجاً من جلدها
ترتمي خلف المسامات خيولاً
ظاهر الأيدي غرابيل تدلت في المشابك
ظاهر الأيدي شبابيك تعرت من نبوءات المهالك
وأخيراً تستل سيفها المبتل والسبات الثقيل يغالبها وهي مستلقية حول أضرحة القوم المهزومين في عراكهم ومعاركهم وقد لفهم التحية وتمددوا على أرصفته.. وتنتهي إلى قرار..
تسم الأرض بمعتز الخطايا
تحمل الأرض إلى أرض بديلة
وتسمي طفلها خير البرايا..
أما هي فقد فازت بعد طول لأي بالجميلة!!
«البراق» مقطوعته.. حيث اصطفاها العنوان لديوانه:
تولدين من صقيع الأرض
سفنا تلهو بك الأيام
فوق مسرى الدهر وخيال يتعالى
يشعل النار بخديه سخينا
ماذا عن دور الحكيمة العاقلة! وهي تقرأ شيئاً.. وتتمتم! إنها تطلب أدواتها السحرية.. و..
تحمل النار على أكتاف مهرة
تأكل النار أمانيها.. جزافا..
كي تتطاحن السيوف.. وتتقارع الرماح.. وتتصارع القذائف كل هذا تحت شعار البطولة والرجولة وينتهي المشهد الجنائزي إلى أجساد ممزقة.. وأرواح مزهقة وأكفان متراصة للموتى.. مشهد تاريخ خارج حركة التاريخ.. هذا ما أوحى به البراق.. دم يراق.. ولا شيء في النهاية.
الموت من الداخل.. إحدى محطاته..
السراديب قبور في فمي
يضحك الجنان في أشواقها
تملك الحمى.. وتلقي بالطمي من دمي..
وعلى هجعتها صرح المجداف في شدة عيس الظلم
من نفق مظلم.. إلى آخر يأخذنا شاعرنا المنصور دون أن يمنحنا ولو بارقة من ضوء تسري عن أجسادنا.. دمعة الحق. وله الحق فالحياة البشرية ساعة عراك لا حراك.. خطابها الحرب.. ومدادها الدم.. وسحابها الدموع.
ورغم نجاته إلا أن الوحشة ما زالت تسكن قلبه وتستهوي لسانه.. كيف لا.! وقد سُرق منه السيف.. وباعوا له حصانه.!
وتركوه مجرداً إلا من هوى غالبه وانتصر عليه بعد أن سيق إليه:
في يدي مصباحها يغتاله النور.. وتخشاه المنية
يتدلى فوق رأسي.. لم أجد رأسي ولم ألق الصبية
حسناً وأنت تترنم بأبيات الحكمة طليقاً من عقالك مشدوداً إلى عقلك:
رُبَّ رأس نازح عن جسد الموت حبيس
رُبَّ نار أشرقت من مغرب الشمس وحياها الجليس..
الشمس لا إشراقة لها من المغرب حتى ولو تعسف الشعراء بخيالهم.. دعها تشرق من مشرقها كي لا نشرق بافتراض مفروض هو ضرب من خيال أشبه بالخيال.!
أبو محجن في وجه الليل.. ما حكايته؟! وحكاية أمجاده المرسومة على سعفة النخيل وقد ذرتها الريح؟! يبدو أن مشهداً غريباً عليه آثار لديه الكثير من الشؤون والشجون:
خلف الأسوار الصينية تبحث فيها
«مأجوج ويأجوج لا تشبع
من أكل الأسوار السبعة..
من قال هذا.؟ الأسوار تُبنى.. لا تؤكل.. إنها لا تسمع ضرب المعول كما قلتَ أنت..
لكن سيل العرم الأكبر يهرب من غضب الجرذان
يدفن في الأرض الأحزان
ربما خوفاً عليه من اختراق الطوفان كي لا يصبح أثراً بعد عين:
أبو محجن يعلو.. يعلو.. سيفاً يرفعه..
يسبح في الصحراء قرونا.. يأكل بالطول وبالعرض
وجه الغيمة.!.. ما أحلاه!! يأكل نفسه..
هناك فرق.! أخيراً.. بعض مقاطع من قصيدته الأخيرة «السكن في الضمير».. يقول:
شاهدت حمامة بلا جناح تأكل عينيها أسى..
حروفها خطها السجين في صحيفة المقدر..
يتبعها الصياد.. يستريح من تعب..
يلعنها.. تلفها الشباك.. تبدو.. تختفي..
الذين يصطادون الأرواح برماحهم وسلاحهم لا يهمهم صيد حمامة هي رمز سلام يقوضون أركانه بخرابهم وحروبهم.. كل شيء في شريعة الغابة مباح ومستباح.. أخيراً وقد خلصت مع شاعرنا الموهوب محمد المنصور في ديوانه «البراق» أقول له بكل حب.. لا البراق.. ولا البرق هناك مكانه.. إنه البيرق.. أو العَلَم الذي رفعت شَعاره وأنت تقتحم معاركك الشعرية معركة معركة.. اجعل من البيرق عنوانا.. ودع البراق في علم الله.. إنه الأنسب..
- الرياض ص. ب 231185 -الرمز 11321 - فاكس 2053338