|
يعد عبد المجيد لطفي من أعلام الأدب العراقي الذين كرسوا حياتهم في خدمة العربية الفصحى عن طريق كتاباتهم الثرة في مختلف الأنواع الأدبية: الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية. غير أنه يمثل نموذجاً نادراً لا بسبب قوميته الكردية فحسب.
(وهناك عدد غير قليل من الأدباء العراقيين الذين ينتمون إلى القومية نفسها أمثال بلند الحيدري وجميل صدقي الزهاوي)، بل لحرصه على الالتزام بالفصحى والاستغناء عن العامية في مجالات شاع فيها استخدام العامية: القصة، والرواية والمسرحية، كما أشرت إلى ذلك في مقال عن (اللغة العامية واستعمالها في العمل الأدبي) نُشر في مجلة المثقف عام 1960عدد كانون الثاني شباط) وفي مقالات مختارة (بغداد: اتحاد الأدباء العراقيين 1961)
وكنت معتمداً في ذلك الوقت على بعض ما أورده في رسالة شخصية يرجع تاريخها إلى عام 1957 وكان المرحوم الأستاذ لطفي قد كتبها استجابة لبعض الأسئلة التي وجهتها إليه (وإلى غيره من الأدباء العراقيين) حول الازدواج اللغوي في العربية أيام كنت طالباً في جامعة هارفرد وكنت آنذاك معنياً بدراسة الازدواج اللغوي تحت تأثير أستاذي تشارلس فيرغسون Charles A. Ferguson(1921 - 1998) الذي اشتهر فيما بعد بدوره الرائد وأثره الملموس في هذا الحقل Diglossia:.
إن رسالته - كما يلاحظ القارئ في أدناه - تتناول أموراً أخرى وبينها إشارته إلى
حالته الصحية في ذلك الوقت (1957) وشكواه من انقطاع الأصدقاء عن الاتصال به وخصّني باللوم - و كان محقاً - لانقطاعي عن مراسلته أيام دراستي في الجامعة المذكورة 1953 - 1957.
ولعلّ أبرز أو أهم ما ورد في رسالته هو انتصاره الواضح للفصحى كلغة أم، واعتقاده المتفائل بغلبتها على العامية أو تلاشي الازدواجية بفضل جملة أسباب: انتشار الكتاب، وتراجع الأمية، وإسهام الإذاعة في تقريب الفصحى من أذواق العامة ورفع أفكار العامة إلى مستوى الفصحى كما جاء في رسالته.
أضف إلى ذلك اعتقاده بأن المسؤول عن الأخطاء الفاحشة التي يقع فيها الكتاب ليس الازدواج اللغوي بل أسلوب التعليم والمادة اللغوية المعقدة؛ ولهذا فقد دعا إلى تبسيط اللغة (أي الفصحى) أو تيسيرها بإعادة النظر في كثير من الأبواب النحوية والصرفية.
ومما لاشك فيه أن الأديب الكبير الأستاذ لطفي كان - كغيره من المتفائلين - على حق حين توقع أن يكون للأسباب التي ذكرها مفعولها السحري في تقريب العامية من الفصحى أو الحدّ من آثار الازدواج اللغوي السلبية، غير أن الواقع اللغوي اليوم - على الصعيدين العراقي والعربي - يناقض ما كان يطمح إليه أو يتفاءل به، فالأمية ما تزال واسعة الانتشار واللغة الشائعة في الإذاعة والتلفزيون وغيرهما من الأوعية كالأفلام والمسرحيات والأغاني والندوات التي تعتمد الحوار المرتجل ما تزال خاضعة لسلطان العامية وتأثيراتها. أما موضوع تيسير النحو وتبسيطه فما زال محصوراً أو محاصراً في أروقة المجامع اللغوية وسواها من المؤسسات أو المؤتمرات التي تشكو من طغيان العامية وخطر اللغات الأجنبية أو قل (الغزو اللغوي)، وتنادي بين حين وآخر إلى تبسيط الفصحى واستخدامها على أوسع نطاق ممكن بينما يتعالى الصراخ: الفصحى في خطر.
وثمة أمر آخر أود التلميح إليه لا يتعلق برسالة الأستاذ لطفي ألا وهو تاريخ مولده، فالشائع أنه ولد عام 1905 أو 1906 وقد تمت الاحتفالات بالذكرى المئوية لميلاده، ولكن غلاف رواية المرحوم في الطريق المنشورة عام 1958 ينصّ على ما يلي: (ولد المؤلف في مدينة خانقين 23 تموز 1327 رومي من أب يتعاطى المحاماة ويقول الشعر باللغات الكردية والتركية والفارسية ومن أم ورعة استوعبت القرآن في الرابعة عشرة من عمرها).
إذا صحّ أنه ولد في تلك السنة (1327 رومي) حسب التقويم العثماني المعمول به حتى أواخر العشرينيات من القرن الماضي، فإن ذلك يعني أنه ولد عام 1911 السنة التي تقابل 1327 رومي، وأترك الأمر إلى المعنيين بدراسة المرحوم دراسة جادة للتثبت بدقة من تاريخ ولادته وتوضيح سرّ اختياره النص على 1237 رومي عند الإشارة إلى ولادته بدلاً من النص على السنة الهجرية أو السنة الميلادية، ولعل هذا الأمر قد درس دون أن يتاح لي الوقوف على ما تم بشأنه.
نصّ رسالة الأستاذ عبد المجيد لطفي إلى صالح جواد الطعمة
عبد المجيد لطفي
وزارة المالية بغداد
تحية طيبة ومودة صادقة وبعد فقد تشرفت برسالتك الكريمة المؤرخة في 7 - 4 - 57، فما من شيء يسرني كرسائل أصدقاء في الغربة يناضلون من أجل مثل أعلى للحياة بكل مرافقها وفي طليعتها أدب جديد وفكر جديد لحياة جديدة.
ولن ألوم أحداً من أصدقائي الذين انقطعوا عن الاتصال بي فأنا أعرف بظروفهم و(بالازدواج) الذي يشعرون به فترة قلقة من شخصيتهم الشرقية المتزمتة والشخصية الجديدة التي تريد الحياة الجديدة أن تفرضها عليهم.. ولكن ثمة ما يدعو إلى شيء من التساؤل فأنا أعرف أن لكل مغترب لهفة حادة يقودها الحنين إلى من في الوطن فالأصدقاء والذكريات والروابط الأدبية وعبق الحب كل هذا يجعل المغترب - مهما كانت دواعي اغترابه - كثير الشوق إلى من ترك أصدقاءَ أو أحباباً.. ولذلك فقد استشعرت في الواقع ببعض الفراغ لغياب رسائلك عني. بيد أني فرح الآن وأنا أعرف المرحلة التي قطعت والملتقى القريب.. فقد يكتب لي قريباً أن استقبلك كما ودعتك.. وهذا من أروع وأطيب أماني نفسي.
أخي الأستاذ صالح.. إن عنوان الأخ جعفر الخليلي هو كرادة مريم وأية رسالة بهذا العنوان تصله ولست كثير الاتصال به في هذه الأيام ومن الأفضل - من الناحية النفسية - أن تكتب إليه مستوضحاً رأيه في مسألة الازدواج، والدكتور خلوصي - كما تعلم - أستاذ في دار المعلمين العالية وأنا لسوء الطالع قليل الرؤية والتحدث معه.
ومع الأسف الشديد إننا في العراق غير حافلين كثيراً بمسألة دراسة الصعوبات الموضوعية والمشكلات التي تواجه أدبنا وأدوات عملنا الأدبي لأن مثل هذه الدراسة تحتاج إلى بصيرة وذوق وعناء غير أن إلمامات عابرة أشبه بالتذمر تكتب أحياناً عن قواعد اللغة وعسر هضمها والمؤسف أني لا أحتفظ عادة بتلك الخواطر لسبب واحد هو أنها مجرد شكوى سطحية على جانب كبير من الضحالة.
بقيت أنا.. وكم أنا مسرور أن أدلي برأيي ما دام ينفعك وما دمت تنظر إليه كرأي على شيء من القيمة.
إن مسألة ازدواج اللغة - في الأدب، قصة ونقد أو مقالة - لا تضايقني بالمرة لأنني طوعت قلمي على ألا أقحم في أدبي كلمة عامية ما دمت مستطيعاً الاستغناء عنها وأنا مُستغن عن العامية دواماً لا استكباراً عليها، بل لأنني اعتبر الفصحى هي اللغة الأم المحافظة على كل جمالها البسيط المهذب ووافية بكل احتياجاتي دون تعسف. وثمة سبب آخر يجعلني غير متضجر من وجود العامية ذلك أني أفترض حين أكتب الحوار، إنما أنقل بأمانة عن لغة ثانية، كما أنقل عن التركية والإنكليزية مثلاً.
والجوهري في الموضوع - موضوع الحوار - هو شكلية الحوار ومستواه.. إن اللغة وسيلة تعبيرية فأنا حين أكتب حواراً ألاحظ مستوى بطلي في الكلام فلا أضع حواراً لا يمر في ذهن فلاح على لسان فلاح ولا أضع حواراً مسفاً على بطل جامعي.. فالخلخلة المؤسفة في الحوار لا تتأتى من صيغة الحوار بالفصحى أو العامية وإنما عن طريقة التعليق والشرح والإبانة أي عن مستوى الفكر ووضع الشيء في مكانه.. فالنبو ليس في الكلام وإنما في المعنى، فالذين يكتبون حواراً فصيحاً يقعون في خطأ نسيان واقع الحال وهو أنهم حين يكتبون حوارهم بلغة فصحى يفكرون تفكيراً أعلى فينسون المستوى، مستوى البطل أما أنا فلا أنسى، لا أنسى مستوى بطلي فأنا لا أضع في كلامه حواراً أرقى مما يتداول في واقعه. وهذا السبب الجوهري يجعل الشكوى معدومة في حواري أو ضد حواري فيما أكتب تقريباً.
والعامية اليوم في دور مهم جداً من أدوار الاستحالة الثانية فلقد استحالت أولاً وببطء عن الفصحى وتشكلت هذه التشكيلات الدارجة المضطربة المقاطع بحكم البيئات المتعددة وتمر اليوم بالاستحالة الثانية، من العامية إلى الفصحى وتعرف أنت بقية الأسباب وفي مقدمتها انتشار الكتاب وتراجع الأمية وإسهام الإذاعة بقسط كبير في تقريب الفصحى من أذواق العامة ورفع أفكار العامة إلى مستوى الفصحى.. ثم اختلاط الجيل الجديد المهذب لسانه - حتى عاميته - مع الجيل السابق الذي كان إلى حين مضى منقطع الصلة عن كل ثقافة كلامية وتعبيرية.
وأسألك على سبيل المناقشة ما الذي يضايق الأديب حين يحول كلاماً عامياً يقوله أو يتداوله بطل من أبطال قصة أو واقعة إلى لغة فصيحة؟
خذ هذا المثل: ( ?أنت روحي زه?انه، وراسي ديوجعني لما خشيت الغرفة وو?عت فرد و?عة على الفراش وما ?مت إلا نصّ الليل)
فأنا حين أسمع هذا الحوار على فم بطلتي أحوله بكل سهولة ويسر إلى واقعي الأدبي وأكتبه بأسلوب الفصحى:
- كنت متبرمة وفي رأسي صداع عندما دخلت الغرفة وألقيت نفسي على الفراش بإعياء ولم انتبه إلا بعد منتصف الليل)!
ترى من هذا أن الحوار العامي البسيط يتحول بسهولة إلى لغة جميلة مؤنقة بدقة تامة ويكتسي ثوباً أكثر تأنقاً، وعما قريب سيفهم الرجل العامي لغتنا الفصحى إلى جانب لغته العامية كما نحسنها نحن في الوقت الحاضر.. فنحن نعرف اللغة العامية الدارجة إلى جانب لغتنا الفصحى اللغة الأم وما دامت اللغة الأم هي الأفضل والأكثر موسيقى وشاعرية فلتصدع العامية لبقاء الأفضل وتكيف حياتها وتدنو من الشريط الأزلي الذي انبثقت منه!
إن هذا التلوين في الأدب مضحك إلى درجة كبيرة وأعني بالتلوين كتابة السياق أو الهيكل بالفصحى وكتابة الحوار بالعامية.. فإذا كان المكتوب هو لمن يستطيع أن يقرأ فلم نضع أمامه حواراً رديئاً عامياً فهو يفهم الفصحى ويتذوقها وهو بالتالي ليس بحاجة إلى العامية لأنه ليس متهافتاً في مستوي إدراكه ومفهوماته الأدبية وإذا كانت مكتوبة - أعني القصة أو المقالة - للعامي فلم يكتب السياق بالفصحى، فالأفضل في هذه الأحوال أن يكتب الجميع بلغة واحدة أعني سياق الحكاية وكلامها.
غير أنني أتساهل أحياناً في إيراد بعض الموجزات كإيراد نكتة محلية ذات مقطع قصير أو مثل مستقر واضح المعالم كأثر أدبي أيضاً من أدب العوام ولغتهم العقلية أو الوجدانية.. هذا في الأدب وهو ما أمارسه وما أعانيه في الكتابة والتفكير منذ عهد طويل كما تعلم يا صديقي. أما الازدواج في الدراسة اللغوية فأنت أعرف بمشكلاتها ولكن أرى أن الازدواج غير مسؤول كثيراً عن الأخطاء الفاحشة التي يقع فيها الناشئة وحتى الكبار من ممتهني الأدب، وإنما العيب كل العيب والتقصير كل التقصير هو في أسلوب التعليم والتواء المادة اللغوية وهذه الفلسفة التي تعتورها بحيث تضايق أكثر الصدور سعة، فلو أن العلماء الأجلاء أعادوا النظر في كثير من أبواب اللغة في النحو وبعض أبواب الصرف والمعاني لاختزلوا الكثير من الزوائد ولخرجوا بنا إلى لغة واضحة جلية موزونة فإذا هضمناها هضماً تاماً وبعناية تلاشى أثر العامية وترسخت القاعدة الأفصح. فالمشكلة الأساسية هي أن اللغة نفسها معقدة. تصور يا صديقي أنها عقدت عمداً وبطالة سبعمائة سنة تدارسها المتبطلون ليعيشوا وفلسفوها وخرجوها وخربوها وجعلوها شائنة بغيضة، فيجب أن نسترجع صفاءها وعدالتها واعتدالها أولاً ثم نضع قواعدها الأساسية الحيوية، مرفوعاتها ومنصوباتها ومجروراتها بأناقة وإحكام وبساطة لنرى كيف يتلاشى أثر الازدواج ويموت فلا تؤثر العامية في رسوخ الفصحى وتمكنها أبداً. وكدليل بسيط فقد قال لي أحد الشكاة من تعسف هذه اللغة أنه خلال سنتين تعلم لغة أجنبية كاملة وتكلم بها ولم يستطع تعلم قواعد اللغة العربية مع ما بذل لها من جهد ومال في وقت مماثل وهو صادق.
إن مسؤولية تبسيط اللغة أو تيسيرها واجب أكاديمي لكن هذا لا يعفي أساتذتنا الذين يدرسون في الخارج عن معالجة هذه المشكلة بمنطقية عقلية جديدة ومحاربة الجمود والتزمت والتقعر.
تصور يا صديقي ما جرّه علينا هذا التزمت فنحن نعرف أن اللغة صعبة المرتقى فنشدد الخناق عند نقدنا أدب الأديب على هفوات لغوية عابرة مسقطين من الحساب كل مجهوداته ومعانيه وأسلوبه وروحه ومنحاه وهدفه.
لقد كان بودي أن أكتب إليك الكثير لولا أنني تعبت فأنا كهل مريض متعب الأعصاب مشدود الأنفاس، فاغفر لي قصر الرسالة واقبل تحياتي ومودتي ودعائي الحار لأطيب الأوقات وأسعد المناسبات وإلى اللقاء.
المخلص دائماً
عبد المجيد لطفي
14 - 4 - 57