إن غاية ما يتطلع إليه الإنسان المسلم، أن تتضح له معالم الطريق إلى ربّه، فتراه يبتهل إليه سبحانه في صلاته كل يوم وليلة أن يهديه الصراط المستقيم، كي يتخذه منهاجاً يسير عليه، وطريقاً يسلكه إلى ربه، حتى يظفر بالسعادة في الدنيا والآخرة. ومن هنا جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله رضي الله عنه، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متشوقاً ليسأله عن هذا الشأن العظيم، فجاءته الإجابة النبوية الشافية بأوضح عبارة، وأوجز لفظ: عندما قال رضي الله عنه: «يا رسول الله قلي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحدا غيرك» قال: (قل آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم. ففي هذا الحديث ذكر للأصل العام الذي يرتكز عليه المؤمن في حياته وهو الإيمان من حيث صفاء العقيدة وتحقيق شهادة أن لا اله إلا الله ونفي ما يشوبها من شوائب شركية مخرجة عن الملة أو شوائب بدعية مضلة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ثم ما يترتب على ذلك من عمل صالح وفق منهج الله القويم ولا يتحقق ذلك إلا بالاستقامة التي بينها ربنا جل في علاه، حيث قال سبحانه: ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? (112) سورة هود، وبينها رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث السابق وفي غيره.
إن هذا الحديث على قلة ألفاظه، يضع منهجاً متكاملاً للمؤمنين قاطبة، يتمثل بالإيمان والاستقامة بالقول والعمل، فيحافظ العبد على الفطرة التي فطره الله عليها، فلا يحجب نورها بالمعاصي والشهوات، مستمسكاً بحبل الله، كما قال ابن رجب رحمه الله: «والاستقامة تكون في سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير اعوجاج أو تعويج لا يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها: الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها» حتى يحيا القلب الحياة السليمة السعيدة كما قال الله تعالى: ?أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? (122) سورة الأنعام.
ثم إن ذلك الإيمان لابد له من ثمر وهو العمل الصالح، فلا إيمان بلا عمل، كما أنه لا ثمرة بلا شجر، ولهذا جاء في الحديث: (ثم استقم) فرتّب الاستقامة على الإيمان، فالاستقامة ثمرة ضرورية للإيمان الصادق، ولئن كانت الاستقامة تستدعي من العبد اجتهاداً في الطاعة، فلا يعني ذلك أنه لا يقع منه تقصير أو خلل أو زلل، بل لا بد أن يحصل له شيء من ذلك، بدليل أن الله تعالى قد جمع بين الأمر بالاستقامة وبين الاستغفار في قوله تعالى: {فاستقيموا إليه واستغفروه}، فأشار إلى أنه قد يحصل التقصير في الاستقامة المأمور بها، وذلك يستدعي من العبد أن يجبر نقصه وخلله بالتوبة إلى الله عز وجل، والاستغفار من هذا التقصير، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (سددوا وقاربوا) رواه البخاري. والمقصود منه المحاولة الجادة للسير في هذا الطريق، والعمل وفق ذلك المنهج على قدر استطاعته والموفق والمعين هو الله سبحانه وتعالى.
مما يجب علينا حول هذا الأمر أن نستشعر الفرق الكبير بين فتنة الشهوات وفتنة الشبهات؛ وأن فتنة الشبهات أخطر بكثير من فتنة الشهوات حيث الاجتهاد في الطاعات على غير منهج الله مما يؤدي إلى فعل المنكر ويظن صاحبه أنه معروف كالبدع الشركية ونحوها، قال الله تعالى: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا? ولو لاحظنا هنا لوجدنا انعدام الضمير لمن هذه حاله والعياذ بالله؛ لأنه قد غطي بالشبهة فلا يؤنبه ضمير ولا يخاف من عقوبة.
فيجب علينا أن نحمي أنفسنا وشبابنا خاصة عن هذه الشبهات والتي يتلقونها عبر الوسائل الحديثة والتقنيات المعاصرة، فالفكر محدود والدرس مفقود والمثبط موجود والرقيب معدوم إلا من رحم ربي والنوازع كثيرة والمجالات واسعة والفرص متاحة والأحداث شائعة وعلى ذلك دالة وشاهدة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): (سوء الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِ بدعةٍ وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصلُ كلِ خطأ في الأصول والفروع، ولاسيما إن أُضيف إليه سوءُ القصد!). فما أوتي أحد من نعمة بعد الإيمان أفضلَ من الفهم عن الله وعن رسوله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء! وبالتأكيد نحن لا نقلل من فتنة الشهوات أبداً إلا أن الوازع الديني المتمثل بالضمير الحي موجود هنا مما يحثه على التوبة والأوبة مجدداً مع الاستغفار والانكسار والتذلل لله. ولنا في قصة أبي محجن رضي الله عنه عبرة وعظة، وهو شاعر وفارس مغوار رضي الله عنه من بني ثقيف أسلم مع قبيلته حينما أسلمت، فأبو محجن هذا كانت نفسه تضعف بارتكاب كبيرة من الكبائر ألا وهي شرب الخمر وكثيراً ما كان يجلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد عهده، ولما كانت وقعة القادسية ومحاربة الفرس وقبل المعركة بقليل شربها أي الخمر، فلما علم بذلك سعد بن وقاص رضي الله عنه سجنه فلما بدأت المعركة وسمع أبو محجن دائرة الحرب وصهيل الخيل بكى واشتد بكاؤه فلما سمعت به زوجة سعد وكان سعد مريضاً يدير الحرب وهو مستلق على بطنه من شدة القروح التي أصابته في فخذيه جاءت إليه تسأله عن حاله فذكر لها رغبته الشديدة بالمشاركة في الجهاد لنصرة الله ولإعلاء كلمته، وعاهدها على أن يرجع إلى قيده وسجنه إن أبقاه الله ففكت قيده وأعطته فرس سعد (البلقاء) فدخل المعركة متلثماً وكان يشق الجند ويبهر الناظرين حتى قال سعد: لولا أن أبا محجن في القيد لقلت هذا أبو محجن، ولولا أن فرسي البلقاء مربوطة في مكانها لقلت أنها هي فقالت زوجة سعد إنه أبو محجن. فلما انتهت المعركة رجع أبو محجن إلى سجنه وقيده فزاره سعد وهو يقول: والله لا أجلدك أبداً، وقال أبو محجن: والله لا أشربها أبدا. ومن هنا يتبين أن ذنب الشهوة يستره بإذن الله وفضله حب الخير والاستغفار والعزم على عدم العود إليه مرة أخرى مع الحزن على فعله وضيق الصدر والانكسار لله، وهذا لا يتحقق مع ذنب الشبهة بكل تأكيد نسأل الله السلامة.. وكذلك ليعلم القارئ أن الذي يعمل الصالحات وهو مؤمن لا يستوي مع من كفر وعمل السيئات واجترحها بنص كلام الله عز وجل لا في عيش الحياة ولا عند الممات، إلا إذا آمن وتاب وأناب وعمل الصالحات واجتهد لهذا الموقف أي الموت والذي بلا شك سيأتيه، قال تعالى: ?أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ? الله أكبر، فالذي يقرأ هذه الآية ولا يتدبرها ويصر على اجتراح السيئات دون توبة فكأنه لا يعلم أنه سيموت عاجلاً أم آجلاً! سبحان الله، وقد ذكر ابن المبارك عن شعبة كما في تفسير القرطبي أن رجلاً من أهل مكة قال: هذا مقام تميم الداري, لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيراً ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها, ثم يقول: ليت شعري! من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة.
أخي الفاضل: ألا تعلم أن الاستقامة لها ثمار عديدة لا تنقطع، فهي باب من أبواب الخير، والبركة فيها لا تقتصر على صاحبها فحسب، بل تشمل كل من حوله، ويفهم هذا من قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}، وقال سبحانه: ?وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا? (82) سورة الكهف، فالثمار تستمر في عقبه، ومن ذلك عناية الله فيهم حتى ينتهي بهم مطاف الحياة قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ?(30) سورة فصلت.. ولكي تتحقق هذه الاستقامة في البدن لابد من استقامة القلب أولاً، لأن القلب هو ملك الأعضاء، فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله، ومحبته وتعظيمه، استقامت الجوارح على طاعة الله، ثم يليه في الأهمية: استقامة اللسان، لأنه الناطق بما في القلب والمعبّر عنه.