في برنامجٍ تدريبي قيِّم عن «الثقافة التنظيمية» عَرَضَ الدكتور منصور عبد الجليل القطري، لمفهومها، وعناصرها، وأنواعها، ومراحلها، ووظائفها، وأدوار القيادات الإدارية في بنائها. والموضوعات ذات الصِّلة بهذه النوعية من الثقافة الإنسانية.
عن مفهوم الثقافة التنظيمية لدى المنشأة أو المنظمة، يشير الدكتور القطري إلى أنَّها «القِيم والافتراضات والاعتقادات المشتركة والمتعارف عليها بين أعضاء المنظمة والتي تحدد كيفية تفكيرهم وأساليب عملهم».
هذه القِيم، أو ما أسماها «بالممارسات» تشمل: أسلوب الأداء، استخدام وسائل التقنية، أساليب التخاطب بين الموظفين، كيفية اتخاذ القرارات، طرق انسياب المعلومات، البيئة المادية، الاهتمام بالوقت، أخلاقيات العمل، سياسات الإدارة العليا، نظام الترقيات والمكافآت، العلاقة مع المستفيدين من خدمات المنظمة، العلاقة مع المنظمات الأخرى.
وهذه القِيم إذا استثمرت بصورة علمية وفنية، وبمهنية عالية، سوف تؤدي بالقطع إلى نتائج ومؤشرات إيجابية على صعيد البناء المادي والمؤسسي للمنظمة. ومن ثمَّ تبدو بجلاء وظائف الثقافة التنظيمية من خلال الآتي:
- منح الموظفين هوية خاصَّة.
- تشجيع الالتزام الجماعي.
- تشجيع الاستقرار الاجتماعي ودعمه.
- مساعدة الموظفين على فهم متطلبات المنظمة.
والوصول إلى مرحلة التطبيقات الناجحة لمفهوم الثقافة التنظيمية وعناصرها، يتم عبر مراحل متتالية، تبدأ بالتهيئة، مروراً بالتَّجربة، وانتهاءً بالاستقرار.
ويؤكد الدكتور القطري على أهمية أدوار القيادات الإدارية في البناء الناجح لمفهوم وعناصر الثقافة التنظيمية، من خلال مبادرات: تحليل وتقويم الوضع الراهن، ووضع خطط للعمل تتسق مع قِيم وأهداف المنظمة، وتهيئة الوسائل والفرص للتأثير الإيجابي على الموظفين.
هذا التنظير الجيد للدكتور القطري عن الثقافة التنظيمية هو جزءٌ من منظومة متَّصِلة من البحوث والدراسات التي تعجُّ بها المكتبات المحلية، وتعرض لمفاهيم وأسس التنمية البشرية، وتنمية المهارات، وثقافة إدارة العمل، وبناء الهياكل التنظيمية.
ومن ثمَّ فإنَّ الإشكالية لدينا لا تكمن أساساً في نقص هذه النوعية من الدراسات، بقدر ما تكمن في القدرة أو الرغبة في إسقاط وتطبيق هذه المفاهيم والقِيم على واقع منظماتنا ومنشآتنا وهيئاتنا العمومية خاصَّة. إذ لا تزال الفجوة واسعة، والمسافة طويلة، بين الواقع والمأمول، والراهن والمفترض، وما يفرزه من نتائج سلبية على قِيم العمل، وموارد المنشآت، ومستوى الخدمات والمنتجات النهائية.
بنظرة موضوعية لوضعية منشآت القطاع العام في المملكة، نجد أنَّ العديد منها، إن لم يكن الأغلب، يفتقر إلى تطبيقات مفاهيم الثقافة التنظيمية وعناصرها في إدارة العمل، بما تشمله من قِيم ورؤية ورسالة وأهداف وبرامج ومتابعة لمستجدات هذه الثقافة على صعيد المنظومة العالمية.
ولعلَّ من أبرز مثالب هذا الافتقار في البناء المؤسسي:
- عدم العناية بنشر وتطبيق ثقافة التخطيط والتطوير لصياغة الأهداف ورسم السياسات وبناء البرامج. وتنفيذ المستهدف وفق جدوله الزمني المحدد، ومعالجة المشكلات والعقبات الناشئة أو المحتملة.
- عدم العناية بتقسيم العمل وتوزيع الأدوار والمسؤوليات وفق منهجية مهنية عالية تستند إلى معايير الكفاءة والتخصص.
- عدم وجود آلية ذات مصداقية وشفافية لتحفيز مبادرات الجودة والابتكار والإبداع. وتطبيق برامج الحوافز والمكافآت «الدعم المادي والمعنوي».
- عدم وجود آلية ذات مصداقية وشفافية لتطبيق معايير العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع العاملين في المنشأة دون استثناء.
- عدم العناية بتعزيز الموارد، وتنمية قدرات ومهارات العاملين، وإشراكهم في المناقشة وصنع القرار، والعناية باحتياجاتهم السكيولوجية.
هذه المعطيات السلبية تعكس في الغالب سيادة نمطٍ إداري لا يؤمن أساساً بأدوار التطوير والتحديث، يتولى رعايته، واستمرار وجوده وتألقه: إما قيادات بيروقراطية، تفتقد القدرة أو الرغبة في تطوير بيئة العمل، وتبسيط أساليبه، وتحسين إجراءاته، ناهيك عن تطبيق ونشر ثقافة التخطيط والتفكير الإستراتيجي الضرورية للنهوض ببنية المنشأة الإدارية والبشرية والهيكلية والإنتاجية. فهي قيادات ميَّالة إلى الارتخاء والسكون، وإدارة العمل بعقلية متحجرة، ومتخلفة. وإما قيادات أوتوقراطية أو تَّسلطية تسعى إلى تركيز كل السلطات والصلاحيات في أيديها، وتتخذ من المركزية المطلقة أسلوباً في العمل، دون اهتمامٍ واضح بتطوير بيئته. فهي قيادات نفعية انتهازية هدفها الأساس تعظيم مصالحها الضيقة.
وإزاء هذا الحال، وفي منشآت تُدار من قبل قيادات بيروقراطية أو أوتوقراطية، فمن الطبيعي أن تسود بيئات عمل غير صِّحية، تُغذِيها النظم والأساليب البالية، والوساطة والمحسوبية، والصراعات على المناصب والترقيات، والتَّهافت على المكافآت والحوافز دون وجه حق، وتمكين المصالح الخاصَّة الضيقة على حساب المصالح والأهداف العمومية للمنشأة. وبما يقف حجر عثرة أمام مشاريع التطوير والتحديث الآنية والمستقبلية، وما يصاحب ذلك من انخفاض عام في مستويات الأداء والكفاءة والإنتاجية، واغتيالٍ لعناصر الإبداع والابتكار لدى العاملين، والتخبط والارتجال في صناعة القرارات وتنفيذها. فضلاً عن استمرار تبديد الموارد وإهدار الوقت وقِيم العمل. والأسوأ في هذه الوضعية البائسة أنَّ وجودها يحول دون الوفاء باحتياجات المواطن، ومصالحه، أو في أقلِّه تأخير الوفاء بها. فقد يتطلب الأمر في أحيانٍ معينة الدخول في نفق طويل من الإجراءات والتعاملات يستغرق الكثير من جهد المواطن ووقته. بلْ وقد يتعرض في ثناياها لتَّصرفات وسلوكيات تمس كرامته الإنسانية وحقوق المواطنة.
هذه الإشكالية، قابلة للاستمرار لسنوات طويلة، ما ظَّلت القيادات البيروقراطية أو الأوتوقراطية وما شابهها جاثمة على مقدرات وموارد وبيئات عمل منشآت القطاع العام. ولا أدري لماذا لا تلجأ جهات الإصلاح الإداري - إذا كانت ترغب حقاً في تطوير بنية منشآت هذا القطاع الأساس - إلى الربط بين عنصري الكفاءة في اختيار القيادات (الوكلاء - المدراء العموميون.. إلخ) وتحديد فترة زمنية لا تتجاوز في الغالب أربع سنوات، هي الفترة الوحيدة المتاحة لهم لممارسة القيادة الإدارية والإشرافية. ولا بأس أن تعود هذه القيادات بعد انتهاء فترة عملها المحددة، إلى خدمة المنشأة في مجال وإطار آخر.
ومن أبرز ثمرات هذا التَّوجه:
- إتاحة الفرصة لتداول السلطة الإدارية ضمن إطار آلية ذات مصداقية وشفافية، بما يسمح بالتَّخلص من القيادات غير الفاعلة، واعتماد الكفاءات والمهارات البشرية الواعدة.
- إتاحة الفرصة للتنافس البنَّاء بين الكفاءات الإدارية المؤهلة.
- إتاحة التنوع في الأفكار والمهارات بما يسمح بتحقيق مؤشرات إنجاز أفضل.
- التعاطي بإيجابية أكثر مع مستجدات الإدارة والتقنية الحديثة، بما يسمح باطراد التجدد والإبداع والابتكار.
- بناء المزيد من القيادات ذات الخبرة والتَّجربة الثرية.
الكلمة الأخيرة
تُعد المنشآت العمومية ذات الصِّلة بخدمة الجمهور أكثر المنشآت حاجة واحتياجاً لتفعيل أدوات الحراك الإداري لديها، وبناء الممارسات التنظيمية الحديثة. فهذا هو السبيل الوحيد لتحسين خدماتها، وتطوير مخرجاتها. وتحقيق الأهداف والبرامج المعتمدة في خططها التشغيلية أو التنفيذية. وبما ينعكس إيجاباً على النشاط المجتمعي على وجه العموم.