كثيراً ما تطرق حكايات ونوادر عن بعض الأعمال التشكيلية الحديثة قصد من بعض تلك الحكايات التعجب والاستغراب والبعض الآخر أحيل إلى جانب التندر وإضفاء التهكم خصوصا على تلك الأعمال التي تأتي بالصدفة أو التي يعتقد هؤلاء أنها نتيجة تنفيذ تلقائي أو غير مقصود رغم أن مبدعيها قد مروا بخبرات وتجارب خرجوا منها بأساليب تعبير حديثة وسبل تنفيذ جديدة تجاوزت التقليدية إلى مختلف الوسائط فكان لاختلافها الواقع دافعا لاعتقاد أولئك البعض أنها ناتجة عن التنفيذ المرتجل أو غير المدروس وصفت بالصدفة أو ضربة الحظ، يضع هؤلاء بعض تلك الأعمال كأدلة على أنها أقرب للعبث والتسلية مع ما يروج لها من دعاية، لافتقار أصحاب هذا الرأي إلى القدرة على معرفة أي من تلك الأعمال جاء مصادفة وبين عمل آتٍ من قدرات ابتكارية يقف خلفها مبدعون استخلصوا منها أعمالا تحتاج إلى متلقٍّ يمتلك الثقافة البصرية والذائقة الراقية المشبعة بالمشاهدة وزيارات المعارض والمتاحف ومتابعة جديد هذه الفنون.
من تلك الأعمال التي يضعها الكثير وليس النخبة مجالا للتندر، ما ينشر عن أن لوحة بيعت بآلاف الدولارات رسامها (قرد)، أو أن أحد الأشخاص ربط فرشاة في ذيل (بقرة) أو (فيل) وتركها بتلقائية الحركة تخربش على سطح اللوحة، أو أن شخصاً آخر جمع عدداً من الخنافس وجعلها تمُرُّ فوق ألوان مختلفة وتنقلها إلى اللوحة الواقعة في طريقها.. إلى آخر (الصرعات) الفنية لنعود للحديث عنها وعن الفارق بين العمل (الصدفة) والعمل (المدروس أو الناتج عن عقل الإنسان) وأن تلك الأعمال رغم أنها نفذت بسبل غير مقبولة أو مستساغة إلا أن خلفها فكرة نتجت عن إنسان وجد في تلك الأدوات إن صح التعبير سبيلا لتنفيذها كما نراها في السبل الحديثة المتمثلة في برامج الرسم والتصميم التي يتعامل بها الكثير عبر الكمبيوتر كأدوات تنفيذ مع فارق التشبيه في جانب الدقة والحرفية مع ما يمكن أن تنتجه أيضا من أعمال أقرب إلى المصادفة أو التلقائية فيصبح ذيل (البقرة) وأنامل (القرد) وأقدام الحشرات وسائل مرتبطة بعقل من وظفها والفكرة التي يسعى لترجمتها للواقع، إضافة إلى أن هناك أعمالا لا تختلف عن السابق بأن يقوم كثير من الفنانين باللجوء إلى إنتاج أعمال عن طريق سكب الألوان من مساحة بعيدة عن اللوحة أو من مسافات مرتفعة عن مستواها بعد وضعها على الأرض، لكن الأمر يتعلق بكيفية التعامل مع هذه الصدفة (المقصودة) كون الفنان يختار ألوانه وتوقيت نثرها وكيف تتواءم مع بعضها البعض، ومهما حاول الفنان تمثيل المصادفة فلن يستطيع إبعاد لحظة التجلي الإبداعي التي يفتقدها الحيوان كما لا يمكن للفنان عند إسقاطه ألوانه بأي طريقة كانت أن يخفي إحساسه الآتي من أعماق العقل الباطني ومعرفته وعلمه المسبق بما سيكون عليه الشكل في النهاية عودا إلى عقله الواعي.
وبين هاتين الطريقتين (العمل الصدفة والعمل المدروس) قواسم مشتركة يجمعها الإعجاب بتجاوزه حدود أهمية المنفذ إلى جماليات الشكل التي يدفع بالمتلقي إلى قبول العمل الجميل دون النظر أو البحث عمن قام بتنفيذه، فلو قمنا بإخفاء اسم المؤدي لأحد الأعمال أيًّا كان هذا المؤدي إنسانا يحمل عقلا وإدراكاً لما يقوم به، أو بما استخدم من سبل التنفيذ كما أشرنا (الآلية منها أو الحيوانية) دون قصد أو معرفة للنتائج اللاحقة فإن تقييمنا سيكون بما ظهر به هذا العمل ومن ثم الإعجاب به واقتناؤه، وأجزم أن أولئك المتهكمين بما قام به القرد أو ما نتج عن ذيل البقرة لو لم يكونوا قد علموا بمن قام بالعمل أو أن فنانا مشهورا قام بالإمضاء عليه فإن رأيهم فيه سيتغير إلى الإعجاب.
هنا نقف أمام الحقيقة أن التعامل مع أي إبداع فني، لوحة أو منحوتة بأي أسلوب كان وبما شكلت به من وسائط وإضافات لا يعتمد على معرفتنا بالمبدع ولا حتى حجم خبراته وإنما على ما انتهى إليه من إحكام للمقاييس الفنية وتكامل البناء إن كان ألوانا وخطوطا وكتل وفراغ في اللوحة أو كيفية معالجة الكتلة وتحوير الفكرة في الأعمال الفراغية دون إغفال لما تضيفه الخبرة والاسم من قيمة أخرى تزيد في قيمته الفنية والمادية.