كما أن للكون وللطبيعة ظواهر وقف المختصون حيارى في شأنها يتأملون بواعث تكوينها ويرصدون حركاتها ويبحثون تأثيراتها فكذلك الحال بالنسبة للبشر فهناك رجال عندما تمعن النظر في أحوالهم وتتأمل أطوار حياتهم تتملكك حالة شديدة من الذهول والجمود الفكري لن تستطيع معها أن تجد وصفاً أو لفظاً يمكن التعبير بهما عن المعاني القائمة فيهم سوى أنهم ظواهر بشرية نادرة الحدوث صعبة التكرار لا تقع إلا بعد مرور عشرات السنين، ولعل خير من يجسد هذه الحقيقة ويصح في حقه هذا الوصف هو صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض فقد كادت أحواله كلها أن تخرج عن طبائع البشر وقدراتهم وحدودهم المألوفة إلى طاقات وقوى غير طبيعية، وإذا كنا في العصر الحديث مع العالم كله ننتقل من عصر الحياة التقليدية إلى ثورة المعلومات والتكنولوجيا وتوظيفها في جميع مجالات الحياة فأعتقد أن الرياض من أسبق العواصم تطبيقاً لهذا الجانب؛ فالأمير يتقلد مسؤوليات منطقة الرياض وهي مساحة شاسعة الأرجاء ممتدة الأطراف وطبيعتها أرضاً وسكاناً وكونها مقر الحكم وعاصمة الدولة يجعلها تختلف في طريقة إدارتها عن بقية أخواتها من مناطق المملكة العربية السعودية فلن يستطيع أن يباشر هذه المهام وينهض بهذه المسؤوليات الجسام إلا عظيم من الرجال فذ فيهم مختلف عنهم، وأعتقد جزماً أن مدرسة عبدالعزيز الخالدة في الحكم والإدارة والسياسة منابع غزيرة أفاد منها الأمير في حياته الشخصية والعملية فظلت دوماً بعد اللجوء إلى الله منهلاً يرده ويغترف منه ويرتوي من معينه كلما تكالبت عليه الشدائد وأحاطت به الأزمات والخطوب، وأما القدرات الشخصية لسمو الأمير والصفات الذاتية فهي موضع الاتفاق ومحل الإجماع بين كل من كانت له علاقة معه أو معرفة به أو شُرف بالعمل بجانبه، نصف قرن من الزمان حياة تسير بدقة متناهية تشعرك أنها أداة ووسيلة لضبط ومعرفة الوقت كالساعة لا تتخلف واجباتها أو تتأخر أعمالها فحركتها تعني المزيد من المسؤوليات ووجوب السرعة في أدائها لا يعوق الأمير عن متابعتها أي أمر، أعمال لا يمكن أن يتوقف عن القيام بها مهما كانت الصوارف والمشاغل يبدأ يومه في حضورٍ باكرٍ يكادُ فيه أن يسابق الشمس طلوعها ليكون أول أعماله اليومية لقاؤه بالمواطنين في جلسته الأولى وأعدادهم حين تُضم إليهم الجموع الأخرى في الجلسة الثانية بعد صلاة الظهر ما يقارب ألف رجل مما يعني أنه يلتقي ما يزيد على مائتي ألف شخص في العام، وسكان مدينة الرياض عددهم يتجاوز خمسة ملايين من البشر تقريباً وبعملية حسابية سهلة يكون خمسة في المائة من سكانها من قاصديه ومراجعيه وحين نستبعد النساء والأطفال وهم شريحة كبيرة من نفوسها سيكون مجموع من يلتقيهم الأمير كل عام رقماً مروعاً ونسبة مهولة من عدد السكان سيختزنهم الأمير في ذاكرته الحديدية لتسعفه متى ما أراد التثبت من شخصياتهم بتفحص وجوههم ومعرفة ملامحهم ولو بعد فترة طويلة، إنها الهمم والوعي بالمسؤوليات وتعظيم معاني الأمانة وإدراك تبعات الولاية فحاكم الرياض القوي وكاهل الدولة الأشد وأسدها الهصور أسهل مسئول في الدولة حجاباً تستطيع الوصول إليه والدخول عليه والمثول بين يديه والوقوف أمامه حتى الغرباء والوافدون يجدون أنفسهم حِياله متى أرادوا ذلك فلن يستطيع أحد أن يمنعك عن ذكر مظلمتك أو رفع شكايتك أو يحول بينك وبين ذلك وسيُنظر في أمرك حالاً ويُتحقق من دعواك مباشرة وستُنصف فوراً إذا كان لك ومعك الحق، تقليد جرى عليه الأئمة والملوك من آل سعود في طريقة حكمهم فليس هناك حواجز بينهم وبين رعاياهم وهو في الحقيقة مبدأ إسلامي عمل به خلفاء وملوك المسلمين أيام مجد الدولة الإسلامية وعظمتها وتقهقر فغاب وتلاشى حين ضعفت الدولة الإسلامية فاحتجبوا عن الرعية وأوكلوا هذه المهمة إلى مماليكهم أو بعض وزرائهم فساءت الأمور وفشى الظلم وغاب العدل، للقارئ الكريم أن يتصور هذه الأعداد اليومية تتوافد على رجل واحد للقياه والسلام عليه فقط دون شكايات أو مظالم وليس لها أي مطالب أعتقد أنها سترهق أقوى الرجال وأشدهم بأساً فما هو حال من يلقاهم وغالبهم يعتقد أنه مظلوم أو هكذا يتصور الأمر أو يراه من وجهة نظره كيف يكون الصبر وما هي درجات التحمل وحدود الحلم والقدرة على الاحتواء، وأظن هذه المعاني من أراد أن يعرفها ويستفيدها فيحوي أكبر قدر منها فعليه أن يلازم مجالس سموه وتعرف قدماه دوماً طريقها إلى قصر الحكم وتعتاد زياراته في قصره العامر ناهيكم بالمخاطبات والمكاتبات والمراسلات التي ينظر فيها الأمير بنظرات ثاقبة ويدقق في جميع عباراتها قارئاً كل كلمة قد ترد بين سطورها أعمال وهي مكتوبة وعلى الورق لا تستطيع سواعد الرجال الأقوياء حملها فكيف بالعقل والذهن الذي سينظر فيها مع خطورة وأهمية محتواها مما يحتم أن يكون الذهن والعقل في قدراتهما تصوراً وإدراكاً وفهماً وحكماً قد خرجا عن حدود البشر ذكاءً وطاقاتهم قدرةً، قد يظن البعض أن ما أوردتهُ هو مدح يساق أو تزلف يراد فلهؤلاء أقول: إن الأمير أكبر شاناً وأجل قدراً أن يسعى أو يبحث عن هذا الأمر أو يرد في تفكيره فالإطراء والمدح بالنسبة له ليسا قضيته فمن يكون قصده الحق وبسطه والعدل وفرضه لا يبالي بغير هذين الأمرين، فالرجل في نظر العقلاء المطلعين على الأوضاع والعارفين بحقائقها والأمور وسيرها ووقائع الأحداث وتطوراتها تتفق كلمتهم ويجتمع رأيهم على أنه أحد أقطاب الحكم الكبار ومن قواعد الملك التي يقوم عليها وهو ضمن الحلقة الأقوى التي تتولى مسؤولية إدارة الدولة، ومع ذلك فليس في الأمر ثمة جديد فهذه حقائق ومسلمات نؤمن بها جميعاً ومنذ زمن بعيد وهي نتيجة حتمية للتحديات الخطيرة والتحولات العنيفة والأحداث العاصفة التي عاصرها الأمير وشارك في مواجهتها والمراحل التي أسهم في صنع وصياغة قراراتها ووضع كيفية وآلية الحلول لأزماتها، حين ترصد مراحل حياته وتتأمل في جوانب سيرته ستصل إلى حقيقة مطلقة ثابتة وواحدة لا يمكن أن تتغير وهي أن الأمير يمثل تاريخاً هائلاً وضخماً تجسد في ذاته فيمر أمامك أسلافه العظام من الأئمة والملوك فتقف على ملاحمهم وتشاهد ملامحهم في شخصيته تتقارب صورهم وتتمازج وتتشكل، فترى الأئمة محمد بن سعود في موقفه الخالد وقبوله للتحدي متبنياً الدعوة الإصلاحية وحمله أعباءها وتبصر عبدالعزيز بن محمد في جهاده وتقواه وتقف مع سعود في صلابته في الحق وفتوحاته وترى فيه تركي في تحديه وصبره وبلائه وحيداً يؤسس الدولة من جديد ويبعثها من تحت الأنقاض بعدما ظن خصومها أنها ذهبت إلى غير رجعة وأما فيصل فلا تظن أن رجلاً يفاخر عبدالعزيز بكونه ولداً له وهو رجل الرجال وأعرفهم بموازينهم إلا وسيكون في نظر عبدالعزيز رجلاً مختلفاً في كل صفاته وأخلاقه، وتتقارب أجزاء الصورة فتبدوا ملامحها أكثر وأكثر حتى تظهر رسومها كأقرب ما تكون مشابهة لعبدالعزيز بن عبدالرحمن حين تنظر في وجه الأمير بتأمل شديد ستجد ملامحه في حقيقتها صورة تاريخية نادرة تجمع فيها كل الذين مضى ذكرهم وستشعر معها أن تقاسيم وجهه ولمحات عينيه ونبرات صوته وطوله الفارع وحضوره وسحر شخصيته وجاذبيتها ومظاهر الزعامة والهيبة والجلالة التي تحيط به فتجعل مجرد الوقوف والحديث أمامه ضرباً من الشجاعة والقوة يفاخر بها جميع من تسنى لهم لقاؤه وتدفع الناظر إليه أن يُردد: سلمان فيك تلاقى التاريخ وتجسد الإسلام وتجلت العروبة الحقة وعلى كتفيك قام بناء المجد والشرف، الأمير خُلق زعيماً وفي بيت المُلك نشأ وترعرع وتحت أكناف التاريخ خطى وسار فقدره أن يكون أحد أبناء عبدالعزيز فالانتماء لهذا الرجل مسؤولية عظمى يدركها الأمير فملحمة عبدالعزيز لم تنتهِ بموته فلئن كانت مرحلة التأسيس والفتوحات وتوطيد الحكم والملك أعظم فصولها وأخطر أدوارها وقد قام بها عبدالعزيز بقدرة متناهية وسرعة فائقة ليس لها مثيل في بناء الدول والممالك فكادت أن تشبه الحلم البعيد لكنه رحمه الله ترك هذا الكيان أمانة في أيدي أبنائه البررة، وسلمان من أعظمهم براً فكان له شرف حراسة الدولة وحماية الملك وسياسة الرعية عظمة الرجال حين ينظرون للحياة بذاتها نظرة من عرف حقائقها وأدرك معانيها ووعى حقيقة رسالته وخطورة دوره فكان أكبر من الولايات وأجل من المناصب فتعالى عليها فحياته أوُقفت على الإسلام، يؤمن بالمبادئ والقيم والأخلاق ويتمثلها في حياته فيجعلها منهجاً ومسلكاً لا يحيد أو يتزعزع عنها فسمو الأمير لا يخرج عن هذه الدائرة ولا يمكن أن ينحرف عن هذا الطريق، يحضر الأمير دوماً في ذاكرتي حين أرى مسئولاً يحتجب عن الناس أو يضيق بهم أو ينفر منهم أو يتبرم بمسائلهم وحوائجهم، ويمر طيفه كثيراً في خاطري حين أشاهد من يتعامل مع الخلق بجبروت السلطة وفوقية المنصب فينتصر لنفسه لأنه أسير الأحقاد والضغائن ويرد الأمير في تفكيري دائماً حين أرى تواصله وعلاقته بطبقات المجتمع كله دون تفريق أو تمييز فميزانه أنهم رعية لهم حقوق يواسيهم في مصائبهم ويقف معهم في محنهم ولا يتخلى عنهم في أزماتهم يفرح لفرحهم ويسر بسعادتهم، فالرعية عنده والد وولد وأخ فالكبير والد والصغير ولد ومن يماثله في العمر أخ يخاطبه الجميع باسمه سلمان مجرداً من كلِّ ألفاظ التبجيل وعبارات التفخيم ولا يجد من يخاطبه حرجاً في ذلك فقد كان أهل هذه الجزيرة كذلك مع أبيه ولن تهزه بمثل يا بن عبدالعزيز، ولعل هذا الأسلوب الخطابي هو من أعظم مصادر القوة لديه يستعين به على تحمل الأعباء ويجد عند سماعه لذة وقدرة على النهوض بالمسئوليات فعبد العزيز للبلاد وأهلها ليس مجرد اسمٍ ينطق بل بحراً هائلاً من المعاني العظيمة وأجلها الأمن الذي أجراه الله على يديه وسلطان الشريعة الذي مهد له عبدالعزيز بسيفه، تتنازع حياة الأمير سلمان وتتجاذب أوقاته مسئوليات الحكم وهي فوق الحصر لا يمكن أن تنتهي بنهاية عمله الرسمي فالمتابعة المتواصلة والمستمرة لكل القضايا والوقائع وما أكثرها وياليتها كانت على مدار الساعة فقد يجد الأمير بعض الوقت للراحة فحتى الدقائق تقع فيها تطورات وأحداث تشمل كافة النواحي، فمن أين يجد الأمير هذا الوقت وكيف يستطيع الترتيب بين الأعمال والجمع والتوفيق بين المسئوليات ولا شك أن نجاح الأمير في حياته بعد توفيق الله وما منحه من مواهب وقدرات شخصية خارقة يعود لحرصه الشديد على الوقت وكيفية ترتيبه وبالتأكيد هو من أعظم أهل زمانه تقديراً للوقت ووعياً بأهميته ولو أراد أحد تأليف كتاب عن حفظ الوقت وساق شواهد وأمثلة لبعض من بلغوا الغاية في ذلك فلا شك أن الأمير في طليعة من سيُذكر.
قبل فترة من الزمن ألقى الأمير محاضرة في جامعة أم القرى عن الجوانب الإنسانية في حياة الملك عبدالعزيز رحمه الله فكان كل من المُحاضِر والمُحَاضرَ عنه تاريخاً فعجبت كيف أن تاريخاً يحكي تاريخاً وشبلاً يحاكي والده الأسد والأعجب من ذلك أن الأمير وهو تاريخ في ذاته إلا أن عظمته أيضاً تتمثل في كونه أصبح مدخلاً من مداخل التاريخ فكل الذين عملوا معه وكانوا من رجالاته مهما كانت أدوارهم في أهميتها وتأثيرها أدخلهم التاريخ معه فسيذكرهم ولن يغيبوا من ذاكرته، والشيء بالشيء يذكر فهذا حال العظماء لقد قتل عبدالعزيز عجلان في فتح الرياض لكنه خّلده وكانت نهاية مأساوية لعجلان لكن عبدالعزيز منحه الخلود السرمدي وجعله ضيفاً دائماً على التاريخ فلولا عبدالعزيز لم يكن له ذكرٌ أبداً، وقبل أن أختم هذا المقال لابد أن أشير سريعاً إلى ناحية نادرة ومزية عظيمة من مزايا سموه وما أكثرها فأنت تحار كيف تكتب وعن أي شيء تكتب وأي جوانب هذه الشخصية تأسر حين يكون الأمر حباً وعشقاً وتعلقاً وميولاً يظل المرء مأسوراُ به لا ينفك عنه بأي حال من الأحوال قراءة، كتب السير والتراجم وتواريخ خلفاء المسلمين وسلاطينهم وأمرائهم وحكامهم في عصور القوة تصف مجالسهم بأنها رياض علم وأسواق للمعرفة يلتقي فيها العلماء ويجتمع الأدباء والشعراء وتعقد فيها المناظرات ويجري فيها الحديث عن قضايا الشريعة واللغة والأدب وسمو الأمير أحيا هذه المجالس وإن شئت فقل أعاد سيرة أسلافه العظام من الأئمة والملوك حين كان العلم وأهله لهم الصدارة في مجالس آل سعود فأقام جسوراً بينه وبين مصادر المعرفة وينابيع الثقافة كتباً وعلماء متابعة ومطالعة يستدرك ويلاحظ ويصحح وينبه علاقة متينة فريدة قد لا تجد لها شبيها في العصر الحاضر، وختاماً من أراد أن يعرف تميز آل سعود وما جبلوا عليه من التواصل والتعاطف والتراحم فيما بينهم فليسترجع ملازمة الأمير سلمان لأخيه الملك فهد طيب الله ثراه وجعل في عليين مثواه أيام مرضه وقد طالت وقبل فترة رافق أخاه ولي العهد المبجل سيد المكارم الأمير سلطان بن عبدالعزيز في رحلته العلاجية في مدة قاربت العام الكامل لم يفارقه فيها حتى من الله عليه بالشفاء وعاد لأرض الوطن هذه المعاني، لا يدركها ولا يعيها إلا من يقرأ في التاريخ عن أسر حاكمة أفنى بعضهم بعضاً قتلاً وتشريداً ولا يبلغ سلاطينها وأمراؤها الخلافة وسدة الحكم حتى يصفي بقية أهل بيته ولو كانوا إخواناً يقتل الولد والده والأخ أخاه لكنها المنابت الكريمة والأعراق الطاهرة وبركة الطاعات وصلاح الآباء، وفي نهاية المطاف وختام القول أعتذر لمقام سمو الأمير فمن أنا حتى أكتب عنه لكن ما يخفف عجزي عن وصفه أن كل شعر يقال مدحاً فسلمان بيت قصيده وكل نثرٍ يُنَظمٍ فلسلمان دُره وبليغه.