زيادة معدلات النمو السكاني المطردة في كثير من دول العالم، أفرزت كثيراً من السلبيات، ومن بينها على سبيل المثال، جيوش البطالة والباحثين عن العمل، حتى من المؤهلين، من الخريجين وغيرهم وهذه الزيادة السكانية والعدد المتزايد من العاطلين عن العمل، لم يقابله نمو في الفرص الوظيفية، بحكم ضمور الموارد لدى كثير من الدول، حيث إن هناك معادلة طردية ما بين الزيادات السكانية، وشح الموارد، وتراجع مساحات الإنتاج الطبيعية، ولم تكن المملكة حالة استثنائية من النمو، وإفرازاته، لكنها تختلف عن كثير من الدول، في كونها تحتضن ملايين الأيدي العاملة المستقدمة من شتى بلدان العالم.
الفرص الوظيفية للعمالة المستقدمة بمختلف مجالات عملها، وفرها القطاع الخاص، لاعتبارات كثيرة، بعضها يتعلق بأصحاب العمل، والبعض الآخر يخص سياسة وزارة العمل للسعودة والإحلال الوظيفي لأصحاب المهارات العالية الذين لديهم الاستعداد للعمل لساعات طويلة مقابل مخصصات متواضعة (في كثير من الأحيان) وإجازات في الحد الأدنى، مقارنة بالوظائف الحكومية التي يسيل لها لعاب طالبي العمل من أبناء الوطن.
وإذا أضفنا إلى ذلك بعض ترسبات فترة الطفرة الأولى، نجد أن الانطباع القائل بأن بعض الشباب لديهم زهد في المهن الحرفية، والوظائف العمالية، والأعمال اليدوية، مهما كان مردودها المالي يجد من يصدقه، أو على الأقل من يروج له، وهذه كلها عوامل تكريس لهذا المفهوم، وهذا أيضا يرجح دور العامل الاجتماعي في هذه النظرة، وهذا الموقف من بعض المهن التي يتكالب عليها الوافدون بمنافسة شديدة، بل ويحصلون على عائدات مالية عالية منها، في حين نجد كثيراً من شبابنا يبتعدون عنها، ويفضلون انتظار الوظيفة التي تأتي على طبق من ذهب.
الآن بدأت الصورة تتغير إلى حد كبير، وبدأ الشباب ينظرون إلى كثير من الحرف والمهن بعين الاحترام والتقدير، ورأينا بعضهم يقيمون مشروعات ناجحة في مجالات كانت أبعد ما تكون عن أذهانهم، وكم قرأنا وشاهدنا في التحقيقات المصورة، تلفزيونياً وصحفياً كثيرا من شبابنا يديرون مطاعم ويعملون بها بإتقان وتفان شديدين، ومنهم من أسس مراكز لصيانة السيارات، وتميزوا فيها، ومنهم من عمل في مجال البيع والشراء، وفي أذهانهم أن في التجارة بركة، أن تسعة أعشار الرزق فيها، وكانوا أيضاً من المتميزين وجنوا من وراء ذلك مداخيل كبيرة. كل هذا يشير إلى وجود نظرة جديدة من غالبية الشباب تجاه الأعمال الحرفية، ووجود مفهوم جديد لتعاطي الشباب مع المهن الحرفية واليدوية، والأشغال التي كان البعض يترفعون عنها، ولا يعيرونها اهتماماً.
أمام ملامح هذه اللوحة الاجتماعية الرائعة، التي بدأت تبرز مفاتنها وتظهر جمالياتها، يحفنا إحساس عميق بالفرح وشعور غامر بالسعادة، إزاء هذا التحول الإيجابي في نظرة الشباب- وهم جزء لا يتجزأ من المجتمع- تجاه ثقافة العمل، ومفهوم المهنة، والإحساس بالمسؤولية، وتحدث البطالة، ومقاومة إفرازاتها.
هذه الإشراقات الإيجابية المبشرة، والمنعطفات الجديدة، يجب ألا تمر مرور الكرام، ويجب أن تجد الدعم والمؤازرة والمساندة والتشجيع، فهذا خط جديد، يكسر حاجز النظرة الدونية تجاه المهنة، ويزيل الغشاوة التي كانت على أعين البعض، وتمنعهم من رؤية إيجابيات تلك المهن، والمردود المالي العائد منها.
يحدث هذا التحدي القوي من الشباب لكسر الحاجز، ويدور في الأفق نقاش حول إمكانية تقديم معونة مالية للعاطلين عن العمل، ويثار الجدل حول إيجابيات وسلبيات تلك الخطوة، أو قل ذلك الاقتراح والمشروع، المهم ليس إبداء الرأي حول جدوى الدعم من عدمه، طالما الجميع متفقون حول مصلحة الشباب الذين هم عماد المستقبل، ولكن المهم البحث عن كيفية دعم هذه الشريحة المهمة في مجتمعنا، وآليات الدعم، وجعله إيجابياً، وفاعلاً.
بريق الأمل الذي بدأ يلوح في الأفق نحو الانفراج تجاه النظرة السلبية لكثير من الشباب تجاه بعض الحرف والمهن، والاعتدال في تلك النظرة، أو بالأحرى عملية تصحيح الرؤية (التي تمت بلا جراحة) يجب أن تقابل ببرنامج مدروس، يسهم في استمرارها، وتقويمها وتوجيهها الوجهة الصحيح، بمعنى آخر، هل بالإمكان توجيه الدعم المقترح للشباب الذين لديهم استعداد لخوض غمار العمل في المجالات المتاحة، خصوصاً أولئك الذين لم يحصلوا على تأهيل يجعلهم ينتظرون وظائف بعينها أو يطمحون إليها؟ أي هل من الممكن التفكير في وضع برنامج لدعم وتأهيل الشباب الذين يتجهون صوب المهن الحرة ويريدون أساسيات البداية، ومن ثم الإسهام في تثبيت خطواتهم على الطريق الذي اختاروه وسيلة لكسب العيش؟.
أعلم أن هناك صناديق تلامس اهتماماتها هذا الجانب، وأعلم أن بعضها لم يستطع الوفاء باحتياجات الشرائح المستهدفة لديه بشكل مباشر، ولكن هذا لا يمنع توجيه أي وعاء من أوعية الدعم تجاه مبادرات التوجه نحو المهن والحرف اليدوية، والأعمال الخاصة، التي تقع ضمن إطارها الأمثلة سالفة الذكر.
هذا التحول الذي تطرقنا إليه، هو تحول إيجابي بكل المقاييس، وخطوة صحيحة من الشباب تجاه أهداف التنمية المستدامة التي تبدأ من الفرد، وبالتالي نحن بحاجة لأن نخطو خطوة مماثلة تقابل ما بدر لنا من بعض الشباب، خصوصا وأن النتائج مبشرة، والمؤشرات ترمز إلى صحة التوجه، وطالما هناك مجال للنقاش، أو مشروع في الأفق لدعم تلك الفئات فليكن تعزيزاً لمثل تلك الخطوات الإيجابية، ضمن إطار الأهداف الإستراتيجية لدعم العاطلين عن العمل، فقط في هذه الحالة سيكون الدعم لشخص أو أشخاص ومساندتهم في البقاء على رأس العمل.