بمناسبة الذكرى الثلاثين للثورة في إيران، ألقى الرئيس أحمدي نجاد خطابا في همذان قال فيه: إن الثورة هي التي هزمت الفرع السوفييتي من الحضارة الغربية، وهي في سبيلها اليوم إلى هزيمة الفرع الغربي، الأميركي، وإن العالم سيشهد ولادة نظام جديد يتمثل اليوم في إيران، التي تقود حلفا يطرد «المستكبرين» من المنطقة، ولن يوقف نضاله قبل القضاء عليهم، وخاصة رمزهم الصهيوني في فلسطين.
كرر الرئيس هذه الفكرة مرات متعددة بعد ذلك التاريخ، وعرج عليها تلميحا في لبنان، عندما أعلن بالنيابة عن دول عديدة بينها تركيا وفلسطين ولبنان والعراق، ودون استشارتها، قيام تحالف سيناضل ضد الغرب إلى أن يخرجه من المنطقة، ويقيم فيها نظاما جديدا معاديا له. كما كرر بعض أنصار إيران هذه الفكرة وكأنها مسلمة لا يأتيها الباطل، وإن كان هؤلاء قد كشفوا الطابع الداخلي للمعركة الكبيرة، الذي سكت نجاد عنه، فأعلمونا أن للاستكبار بعدا داخليا، وأن محاربته ليست معركة داخل ضد خارج، بل هي كذلك، وإلى إشعار آخر، معركة داخل ضد داخل، أي قسم من العرب ضد قسم آخر، وقسم من المسلمين ضد غالبيتهم، فهي لا تتطلب فقط اعتبار إيران جزءا من الداخل، وتبرر إذن تدخلها في شؤون غيرها، بل وتجعل تدخلها واجبا سياسيا ودينيا لا يحق لأحد الاعتراض عليه أو اعتباره اقتحاما يقوم به طرف خارجي لمجالنا الوطني والقومي، الداخلي، والذي لا يخص أحدا غيرنا. ومن يستمع إلى تصريحات شخص كالموسوي، وزير خارجية حزب الله، سيجد أنه يستنكر ويدين دون توقف التدخل الخارجي في شؤون لبنان، ويلقي مواعظ على غيره من اللبنانيين في خطورة التعامل مع الخارج، كأن إيران ليست في نظره خارجا، وكأن تدخلها في شؤون لبنان والعرب ليس تدخلا أجنبيا، هذا إن اعترف أنه تدخل أصلا.
ثمة في كلام الرئيس الإيراني جانب بالغ خطورة على العرب والإيرانيين، هو التالي: ليست المعركة الدائرة الآن معركة بين إيران والغرب معركة تسويات وتفاصيل يمكن التفاهم حولها، بل هي معركة نظام صاعد ضد نظام آفل، نظام يولد ويعيش وآخر يموت ويتلاشى، ولن تنتهي بغير موت النظام الغربي الآفل، لسبب بسيط هو أن إيران تربح الحرب ضده، فليس من مصلحتها إيقاف المعركة، أقله لأن أحداً لا يوقف معركة يربحها، ولا بد أن تصعد جهودها على مختلف الجبهات، كي تتخطى التفاصيل وتؤكد طابعها الجديد كمعركة نظم، معركة حياة وموت وليس معركة مفاوضات ومحادثات وحلول وسط وتسويات!.
نصل من هذه الحقيقة إلى نقطتين مهمتين:
- إن ما نره من عروض تسويات ومفاوضات ما هو إلا أعراض زائلة وتكتيكات باطلة هدفها تقطيع الوقت بينما يحدث التحول الحقيقي على صعيد آخر وبوسائل أخرى: صعيد معركة النظم وبوسائل العنف والعراك وسفك الدماء والتدخل في شؤون الآخرين، بعد تحويلهم إلى أعداء، وتهديدهم بضربهم وتدميرهم.
- إن معركة النظم الدائرة لا يجوز أن تكون محكومة بأي تكتيك، لأن حقلها الرئيس، الذي تتعين من خلاله، هو إستراتيجية شاملة وعليا، تفرز المنطقة إلى معسكرين لا مفر من أن يزول أحدهما، وتضفي على معركتهما دلالات نشأت الدبلوماسية كي تحد منها أو تبطلها تماما، فالسياسة والعلاقات مع الآخر لهما هنا معنى مختلف عن معناهما السائد.
بقول آخر: من الجائز والضروري العمل من خارج أية شرعية دولية أو أي نظام قيمي يضبط علاقات الدول والشعوب.
يعني هذا أن ما يقال حول صفقة بين أميركا وإيران كان صحيحا ربما قبل نجاد، لكنه لم يعد صحيحا اليوم، وستتناقص صحته بمرور الوقت، إلا إذا قبل الأميركيون التفاوض مع إيران حول خروجهم من المنطقة، وأعلنوا جهارا نهارا قبولهم قيام نظام إيراني على امتداد العالم العربي وربما الإسلامي (يريده نجاد في العالم كله)، وهذا، في اقتناعي، استحالة مطلقة، على الأقل في ظل الشروط الراهنة وموازين القوى القائمة، ونقاط الضعف الكثيرة التي تخترق الموقف الإيراني العام، سياسيا واقتصاديا وقبل كل شيء عسكريا، وعدم استعداد أميركا التقليدي لقبول الهزائم التي تنزل بها، وسعيها إلى تكييف نفسها مع أوضاع خصومها، إن كانوا في حال أفضل من حالها، ريثما تقيم شروطا تجعل حالها أفضل من حالهم، فتريهم الويل!.
ليست أزمة إيران وأميركا ذاهبة في اتجاه حل وشيك، فلا إيران تعتقد أنها تخسر ولا أميركا تقبل أن تهزم، والمعركة على أشدها وتتصاعد، رغم علامات تفاهم وتنسيق خفي هنا هناك.
المشكلة الحقيقية بالنسبة لنا نحن العرب هي أن معركة هؤلاء الأجانب على المنطقة هي معركة علينا، وأنها مبنية من الجانبين على حسابات تفضي إلى إضعافنا، وأننا إلى اليوم بلا موقف أو أن موقفنا ضعيف ويزداد ضعفا، وأننا منقسمون وفي جبهات متعارضة: يراهن بعضنا على إيران ويناصرها، ويفعل بعضنا الآخر العكس، كأن المعركة لا تدور عندنا وعلينا، أو كأننا لسنا من يدفع وسيدفع أبهظ الأثمان بالنيابة عن طرفيها المتصارعين، اللذين لا يأبهان لرأينا ومصالحنا ولا يقيمان لنا وزنا، مع أن كلاً منهما بأشد الحاجة إلينا!.
هل تضمر معركة النظم، التي بدأ الغرب يفهم جانبها هذا ويعدل سياساته في ضوئها، حلا عسكريا ؟.
أعتقد جازما أن حلا كهذا سيكون في يوم من الأيام القادمة وسيلة حسم الصراع، وأظن أنه مثلما تدخل إيران إلى الصراع على المنطقة من البوابة العربية، يمكن لأميركا أن تكشف إيران تماما إن هي قررت الدخول عليها من البوابة ذاتها، خاصة وأن ضعف العرب الذي تستغله إيران لاختراق العالم العربي يمكن أن يكون سبب إخراجها منه: بضرب حلفائها فيه والقضاء عليهم، ما دامت المعركة معركة نظم، وما دام ضرب الهوامش كثيرا ما يصيب القلب!.
والحق، إن نجاد كان صادقا في لبنان عندما قال إن المرحلة هي لتجميع الأوراق وتغيير الموازين، وإن الأصعب لم يأتِ بعد، خاصة إن بقينا كعرب أسرى مواقف لا نفوذ لنا عليها، يقررها غيرنا، مع أنها لا تهدد وتقوض فقط أمننا وسلامنا، بل كذلك جوانب مهمة من حريتنا ووجودنا!.