كتبت سابقاً عن ضعف الوعي بأهمية العائد من الاستثمار في مجال المسؤولية الاجتماعية وما أدى إليه من تدني توجه المؤسسات والشركات العاملة بالمملكة للاهتمام به. فمعلوم أن الشركات التي تستثمر في هذا الجانب تحقق أرباحاً وعوائد استثمارية لا يمكن تجاهلها، وما ابتعاد
الشركات عن الاستثمار في هذا الجانب إلا نوع من انعدام الرؤية حول الفائدة المنتظرة منه وقلة الوعي بالمفهوم العام للاستثمار في المسؤولية الاجتماعية إلى جانب الخلط الموجود بين العمل الخيري والمسؤولية الاجتماعية، فضلاً عن عدم إفراد ميزانيات مستقلة لأنشطة الشركات والمؤسسات في هذا الجانب وإبقاء ما يتم صرفه على الاستثمار في المسؤولية الاجتماعية ضمن ميزانيات التسويق أو العلاقات العامة؛ الأمر الذي أضعف المخرجات المتوقعة وأطّرها ضمن مفهوم العائد التسويقي.
فقد تم اختزال مفهوم المسؤولية الاجتماعية فيما تصرفه بعض الشركات التي لديها حراك محدود في هذا الجانب ضمن تبرعات نقدية معينة على هيئة رعاية أنشطة حكومية وخاصة محدودة تظل تتمحور في فلك العلاقات العامة ومفاهيم التسويق في الوقت الذي يجب أن يعي فيه القائمون على تلك الشركات ضرورة فصل أنشطتها فيما يخص العلاقات العامة والتسويق وتبنيها مفهوم المسؤولية الاجتماعية الذي يجب أن يشمل اهتمامها بحقوق العاملين لديها ومراعاتها لهم ولحقوقهم وللنواحي الصحية والبيئية والتزامها بالأنظمة والقوانين المتبعة والمنافسة العادلة والبُعد عن الاحتكار وعن الفساد المالي والأخلاقي واستمرار اهتمامها بالمستهلك والعمل على المساهمة في تطوير المجتمع واتخاذ مبدأ الشفافية في الإعلان عن أنشطتها الموجهة للمسؤولية الاجتماعية، وهو ما يعكسه مفهوم المسؤولية الاجتماعية بحسب تعريف البنك الدولي لمفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات على أنها التزام أصحاب النشاطات التجارية بالإسهام في التنمية المستدامة، التي عرفها مجلس الأعمال العالمي بأنها النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة، من خلال العمل مع المجتمع المحلي بهدف تحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم الاقتصاد ويخدم التنمية في آن واحد.
نتائج مخرجات الناتج العام الموجَّه لأنشطة المسؤولية الاجتماعية ينعكس بجلاء في الفرق الكبير بين حجم القطاع التجاري الخاص بالمملكة وما يتم بذله في جانب ونشاط المسؤولية الاجتماعية؛ الأمر الذي يؤدي إلى خلق بيئة غير صحية لنجاح تلك الشركات؛ فمعلوم أن من أهم أسباب نجاح الشركات تجارياً وتنافسياً عملها في مجتمع صحي وبيئة سليمة ناتجَيْن من استشعار الشركات لضرورة وجودهما والعمل على تحقيقهما من خلال إسهاماتها في مشاريع المسؤولية الاجتماعية التي تكفل بالضرورة تطوير العنصر البشري القادر على قيادة رأس المال ضمن خطط واضحة ومعلنة. ويجب أن يتم إدراج المسؤولية الاجتماعية ضمن منهج أوسع وأعم، وهو منهج السلوك المهني الذي طالما طالبنا به؛ وذلك لتثقيف الأجيال بمختلف مراحلهم العمرية والدراسية بمفاهيم المسؤولية الاجتماعية التي تكفل لهم معرفة السلوكيات الأخلاقية غير المقبولة التي تتمثل في رغبة الشركات في تحقيق أرباح وعوائد مالية مجزية من خلال أنشطة غير مقبولة كتشغيل الأطفال وهضم حقوق الكبار والإخلال بالمساواة في الأجر وتشغيل المحتاج في ظروف بيئية مضرة.
وعلى الجانب الآخر فإن زيادة وعي الشركات والقطاع الخاص بشكل عام بأهمية المسؤولية الاجتماعية تعود عليها بكثير من النواحي الإيجابية؛ فلا يمكن أن ينكر أحد أن هدف رأس المال العامل هو التنامي والزيادة، وأن تكريس مفهوم المسؤولية الاجتماعية يساعد بشكل مباشر في تحقيق ذلك من خلال وضع استراتيجية واضحة وشفافة ومعلنه ومستقلة؛ الأمر الذي سيساهم في خفض تكاليف التشغيل وزيادة الإيرادات وتعزيز جودة المنتجات بما يحقق معدلات نمو متنامية.
وإن أردنا تحفيز الجهات العاملة في القطاع الخاص للاضطلاع بدورها في هذا الجانب فإن علينا أولاً أن نقوم بتعريف مفهوم المسؤولية الاجتماعية بشكل محدد دون صبغه بصفة إلزامية كنشاط وإنما كواجب وطني أدبي طوعي يستمد قوته وإلزاميته من الإحساس بالمسؤولية من جهة وضرورة ممارسته لخلق بيئة صحية من جهة أخرى.
كما أن حث العاملين بالقطاع الخاص على التوجه نحو العمل الجماعي ضمن القطاع في رسم خطط عمل واسعة واستراتيجيات موحدة لتطوير عدد من مواثيق الأخلاق المهنية والمشاركة الاجتماعية التي تضمن إيجاد وخلق روح الاحترام والمسؤولية للبيئة الداخلية والخارجية وحمايتها ودعم المجتمع ومساندته من خلال عدد من البرامج التدريبية والتطويرية، مع توافر شرط ديمومة الهدف الذي تخرج منه تلك الخطط والاستراتيجيات، لكفيل بتحقيق الهدف السامي من مشاركة الجميع واضطلاعهم بدورهم تجاه المسؤولية الاجتماعية.
يجب أيضاً عدم إغفال أن ذلك لن يتحقق دون مساعدة القطاع العام الذي يجب أن يقوم بتوفير المساندة اللازمة لذلك، من خلال تحديد أولويات التنمية المستدامة المطلوب تحقيق أهداف بمفهومها الواسع والشامل، وتوفير ما من شأنه تسهيل أنشطة الشركات ودعمها في تحقيق ذلك والاعتقاد الدائم بأن النهضة التنموية التي تضطلع بها الدولة لا يمكن أن تنجح دون مشاركة القطاع الخاص.
وعلى الإعلام مسؤولية كبرى في المساعدة على تحقيق ذلك من خلال محاولة القضاء على الحساسية الموجودة لدى أصحاب رؤوس الأموال بأن ما يتم دفعه للمسؤولية الاجتماعية يعتبر ضريبة حكومية تُفرض عليهم واستبداله بأن ما يدفع هو مساهمة في واجب وطني يعود بالنفع عليهم أولاً، ومحاولة أيضاً التفريق بين الهبات والتبرعات من جهة وما يتم صرفه لتحسين البيئة التي تعمل بها تلك الشركات، ويمكن أن يتم ذلك من خلال عمل توازن في التغطيات الإعلامية مع الجهود المبذولة في المسؤولية الاجتماعية.
لدينا جهة وزارية مسؤولة عن شريحة كبيرة من ذوي الدخول المحدودة هي وزارة الشؤون الاجتماعية، التي أرى أنه لا بد لها أن تضطلع بدورها في استقطاب شركات القطاع الخاص التي مَنّ الله عليها بمشاريع ضخمة من أجل مساعدة الوزارة في تنمية مواردها المالية من أجل تحسين الخدمات التي تقدمها لمن ترعاهم. على الوزارة أن تجند موظفيها لزيارة تلك الشركات وطلب مشاركتهم في مشاريعها الرعوية؛ فلا يكفي أن تقوم الوزارة برعاية الأيتام وذوي الدخل المحدود بميزانيات محددة من قِبل الدولة بل يجب أن يمتد دورها لتأمين مصادر دخل لهم بخلاف تحسين الخدمات المقدمة لهم، وهذا لم ولن يتم دون مساعدة من تلك الشركات الضخمة. إلى اللقاء.