أريد من إخوتي الذين يعتقدون أن الإسلام الحقيقي هو الإسلام المتزمت، الذي لا يعرف التسامح، ولا تهمه المصالح، ولا واقع الحياة المتغير، أن يقارنوا أنفسهم فقط بماليزيا، حيث استطاعت هذه الدولة الإسلامية الفتية أن تقدم حلاً إسلامياً متميزاً يتوافق مع العصر، ولا يختلف مع روح الإسلام وثوابته الرئيسة، ثم يعودون إلى أنفسهم، وإلى ما يطرحون، وكيف أنهم بالفعل أصبحوا مضرب مثل للتزمت والتشدد والانغلاق، ويسألون أنفسهم سؤالاً واحداً بسيطاً: هل بالإمكان أن تقيم تنمية اجتماعية واقتصادية يمكن لها أن تلبي حاجات الناس المعيشية بهذه الشروط الضيقة والمنغلقة؟
هناك كثير من فقهائنا - للأسف - لا يُبالون بشيء اسمه (تنمية)، ويعتقد بعضهم أن المدنية والترف صنوان لا يفترقان؛ بل إن طائفة من متعصبينا يعتقدون أن الاهتمام بالتشييد والبناء هو مثل أن تترك دين الإسلام وتعود إلى حضارات ما قبل الإسلام، التي تحدث عنها القرآن و(ذمّها) واعتبرها ضرباً من ضروب عمارة الدنيا، بينما يرى هؤلاء المتطرفون المنغلقون أن رسالة الإسلام تُعنى (فقط) بعمارة الآخرة لا عمارة الحياة الدنيا، وأن من يهتم بعمارة الدنيا يُخالف معنى العمارة التي أمر بها الإسلام كما يزعمون. مثل هذا الطرح هو ببساطة ضد حركة التاريخ؛ فالإنسان بطبعه يسعى إلى تحقيق مصالحه بمعناها الواسع، حتى وإن تعارضت مع بعض اجتهادات المتشددين، وليس أدل على ذلك من الموقف الجماهيري الغاضب من (فتوى الكاشيرات) الأخيرة؛ فقد رأى فيها الكثيرون (تشويهاً) للدين، وتحميلاً للشريعة ما لا يتواكب مع روحها ومقاصدها، فضلاً عن أنَّ تلك الفتوى (المرتبكة) كانت محاولة صريحة لا تقبل التبرير لقطع أرزاق الناس، إضافة إلى أن أول من ينقضها هو تاريخ الدول في الإسلام ابتداء من دولة المدينة في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء بالدولة السعودية في أطوارها الثلاثة.
لا خلاف أن شرعية هذه الدولة قائمة على الشريعة الغراء. ولا خلاف - أيضاً - أن بقاء الدول اليوم، أياً كانت هذه الدول، بما فيها المملكة، تقوم على تحقيق معادلة (العقد الاجتماعي)؛ حيث يَفترضُ هذا العقد في شكله المعاصر أن يوفِّرَ من يتولون الحكم - (ولاة الأمر) - كل الوسائل لأن يعيش الإنسان، ويتلمس أسباب رزقه، إضافة إلى اضطلاعهم بالدفاع عن الأوطان، وترسيخ الأمن، وتحقيق العدل، وكذلك العناية ب (صحة) الأبدان، وبذل ما في الوسع لحمايتها من الأمراض والأوبئة، وفي مقابل ذلك فإن للنظام الحاكم (الطاعة) من المحكومين والإذعان لأنظمته وقوانينه. وعندما يختل أحد طرفي معادلة العقد الاجتماعي فإن النتيجة الحتمية لهذا الاختلال هي الفوضى والفتن؛ وربما الحروب الأهلية.
وأكاد أجزم أن أساطين الإسلام المنغلق لدينا ليس لمفهوم (العقد الاجتماعي) ولا مقتضيات تحقيقه على أرض الواقع أي اعتبار أو حضور في أذهانهم، ومع ذلك يطلبون من السياسي أن يُناصرهم حتى وإن كانت أطروحاتهم تنسف العقد الاجتماعي من أساسه، الذي ما قام حكمه أصلاً إلا لتحقيقه. إضافة إلى أنهم لا يُفرقون بين متطلبات بقاء الدولة المعاصرة، ومتطلبات بقاء الدولة في الماضي، وهذا ما يتجلى بوضوح في ترديدهم عبارة لا يمكن قبولها على علاتها مؤداها: (لا يصلح خلف هذه الأمة إلا بما صلح به سلفها)؛ وعندما تحاول أن تشرح لهم أن صلاح (اليوم) يختلف عن صلاح (الأمس) لاختلاف ظروف اليوم عن الأمس، يقفزون إلى نبزك بكل ألفاظ الضلال والنفاق، بل وأحياناً يصمونك بالردة والكفر؛ فهم لا يناقشون ولا يحاورون وإنما فقط (يتهمون) دون أن يكون لتهمهم ما يُبررها. غير أن التاريخ علمنا أن مثل هذه الممارسات المنغلقة والمأزومة ستنتهي حتماً إلى الفشل الذريع؛ فمن يجدّف ضد التاريخ، وضد أرزاق الناس، وضد مصالحهم، ربما يستطيع أن يقاوم بعض الوقت، غير أنه بكل تأكيد لا يستطيع أن يقاوم كل الوقت.
إلى اللقاء.