من المدرسين القدامى والمربين الأماثل بدأ مشواره المضيء عام 1384هـ مدرساً ثم مديراً في عدد من المدارس وبعد ستة عشر عاماً وصل إلى إدارة التعليم ليكون مديراً لشؤون الموظفين ثم مديراً للشؤون الإدارية والمالية إلى أن بلغ سن التقاعد فترجّل عن حصانه في التعليم.
ولكنه مع الأدب عاش صحبة طويلة بدأت قبل العمل الوظيفي حيث كان عمره خمسة عشر عاماً وهو طالب فيما يعادل المرحلة الثانوية واستمرت تلك الصحبة بعد ترك العمل الوظيفي.. وكان عطاؤه وتميزه وإبداعه متألقاً في بلدة أحبها من أعماق قلبه وأحبته تلك البلدة وأهلها لوفائه وصدقه وتميزه. صرف لبلدته جُلًَّ اهتمامه يتغنّى بجمالها وينشر مفاخرها ويشجع مبدعيها ويرسم لهم طريق الإبداع والتألق والنجاح، ولذلك خصَّ تلك البلدة بأجود قصائده وأصدقها وأطولها واختار لتلك القصيدة عنواناً فريداً أملاه خياله ورسمت إطاره مقاطع القصيدة.. ذلك العنوان هو: «ترسانة الجود»، أما المدينة فهي (الدلم).
وقبل أن نعرض لقصيدة ترسانة الجود نورد نماذج من شعر شاعرنا الذي سمعناه منه، فمما هو معروف أن لدى شاعرنا -حفظه الله- أربعة دواوين لم تطبع بعد تحوي أروع القصائد وأجمل المقاطع الفنية من شاعر كبير سجل فيها تجاربه ومعاناته على أكثر من خمسين عاماً.
يقول شاعرنا في الملك عبدالعزيز -رحمه الله-:
سقى الله ذكرى من أتاها وشملها
شتاتٌ ونار الحقد تحت الأظافر
وخلفها حسناء في ثوب عرسها
يزينها في الجيد عقد الجواهر
فكم بات طول الليل يعبد ربه
ويدعو، ودفع العين ملء المحاجر
علا فاعتلى عرش البلاد موحداً
لأجزائها فالتم شمل العشائر
سلالة حكام وهذي ديارهم
أتى واسترد الملك رغم المخاطر
وكان إماماً عادلاً متعقلاً
مسيرته فخر لكل مفاخر
وأدهش أهل الغرب والشرق نهجه
فعدُّوه في التاريخ إحدى الظواهر
سألتك يا مولاي تجزيه بالرضا
وبالعفو والغفران يا خير غافر
نص يتحدث عن نفسه فمعانيه صدى لتاريخ مشرق وألفاظه من نسج شاعرية فذَّة صادقة، عبدالعزيز موحد البلاد وباني مجدها وناشر العدل والأمن والرخاء لأهلها وبذلك شهد العدو قبل الصديق والقاصي قبل الدَّاني. ولأن عبدالعزيز العتيّ أستاذ وقدوة فهو رجل تربية لا لبنيه فقط وإنما لكل شباب الدلم وأبنائها، فهو يدعوهم للجد والمثابرة والحصول على أعلى الشهادات وأدق التخصصات والتغلب على المصاعب جميعها.. وانظر إليه يخاطب أحدهم وهو الدكتور سعود الخنين -وهو ابن أخت الشاعر- يقول شاعرنا:
واصل صعودك يا سعود إلى العلا
متأبطاً سفر العلوم مُؤمِّلا
حتى أراك على الخليقة في غدٍ
مثل الهلال على الرؤوس قد اعتلى
كحِّل عيون القاعدين وقل لهم
إني نهلت من المعارف منهلا
ورنوت للمجد الرفيع فطُلته
بالعلم والسعي الحثيث إلى العلا
فجمعت شمل المجد من أطرافه
وعلى الذرى أصبحت أسكن منْزلا
ليس الشقاء شقاء من يسعى إلى
طلب العلا فينال ما قد أمَّلا
ويوضح الشاعر أن التعب في سبيل العلم والبحث والرقي لذيذٌ سهل على النفس محبب إليها ولا يستوي هو والتعب في سبل الغواية والضّلال.. وكم يخطئ قومٌ حينما يظنون أن العلا ستنال دون تعب!! يقول الشاعر:
إن الشقاء شقاء من جلسوا على
درب التخلُّف ينظرون إلى الألى
ساروا على الدرب الصحيح وهم مشوا
في درب غيٍّ يائسين وعزَّلا
لقد مُنح الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالرحمن العتي ملكة شعرية قوية صقلها بثقافة واسعة أصيلة، بنى تلك الثقافة بقراءة جادّة لعدد كبير من الكتب بدأ قراءتها منذ طفولته، حيث كان يشتري الكتب النادرة قبل أكثر من أربعة عقود ويحجز نسخته من الكتاب الذي يجلبه صاحب المكتبة الوحيدة في الخرج من الرياض، ويدفع أي ثمن يطلبه.. وقد أولع بقراءة وحفظ شعر عدد من فحول الشعراء العرب السابقين والمعاصرين واقتنى دواوينهم، فأفاد من ذلك كثيراً، وعارض غرر شعرهم حتى أصبح بحق شاعر الخرج الأول وشهد بذلك عدد كبير من الأمراء والعلماء والأدباء ممن سمع شعره واستمتع بصوره الرائعة. ومن أولئك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ومعالي الشيخ راشد بن صالح بن خنين حفظهما الله. وشاعرنا ذو نفس أبية تأنف الذلّ وترفض الهوان، فلا يمكن أن يسكت على ضيم أو يُقرّ جوراً أو غروراً رآه من إخوانه أو زملائه.. وفي هذه الأبيات تأكيد لهذه الحقيقة وتعبير عن تلك النفس الأبية والهمة العالية وسمو الأهداف والمقاصد.. يقول شاعرنا في عتاب لا ينقصه الحزم والصراحة:
أبا سهيل أخي عفواً ومعذرة
إن جاء قولي غليظاً في معانيه
فيض من الغيظ من جور أحس به
في القلب يخفض من ضغطي ويعليه
ظللت أكتمه في الصدر علّكم
تحاسبوا النفس يوماً دون تنبيه
لكن منصبكم أعمى بصيرتكم
فبئس من كان الألقاب تعميه
ما سرَّني القرب منكم أو سعيت له
ولو سعيت سبقت المرتمي فيه
لم يحظ بالقرب منكم غير مفترش
ذلاًّ وملتحف ذلاّ وحاويه
هذا سيبرز في إبان فترتكم
أما الكريم فماء الوجه يقصيه
أما ترى البحر تطفو فوقه جيفٌ
والدرُّ في القاع لا يبدو لرائيه!!
وفي شعر شاعرنا مقطوعة أخرى أقوى من هذه يرد فيها على خصومه ومحتقريه، ويفخر بما وهبه الله من قدره وشاعرية فذة فيقول:
تحت الصواعق مولودٌ أنا فلذا
يقرقع القوم من حولي فابتسم
ما حرّكت حملة الأشرار في جسدي
لو شعرة بل وما فكّرت أنتقم
ضريبة لنجاحي كان يدفعها
غيري وأدفع مثلي اليوم مثلهم
أما قصيدته (ترسانة الجود) فهي معلقة فذَّة حوت العناصر التالية:
1- مقدمة في تسعة أبيات يبين فيها غرض القصيدة وموضوعها ومطلعها:
سفرٌ من العزّ والأمجاد والقيم
تزهى بها صفحة الماضي عن الدلم
2- حديث عن الخرج في التاريخ في سبعة أبيات، بيّن فيها مكانة الخرج في عهد بني أمية وبني العباس، وذكر الدلم في الشعر العربي في تلك العصور.. ومنها قوله:
ماض عريق يناجيني فأسمعه
يقول لي سل بني العباس عن كرمي
وسل أميّة عما كنت أرسله
من الخراج لأهل البيت والحرم
3- حديث عن مفاخر الدلم في زراعتها ورمالها وسهولها وأوديتها في أربعة عشر بيتاً منها قوله:
شواهقي أعيت الغازي وأسلحتي
صبت على المعتدي سيلاً من الحمم
فصاح في الشرق الضاحي وقال أنا
هنا من الشرق حصن غير مقتحم
كثباني الصفر كم حالت وكم وقفت
في وجه باغ وطماع ومنتقم
4- وكما ورد في المقطع الثالث: يحد الدلم من الغرب سلسلة جبال عُليّة، ومن الشرق رمال الضاحي.. وفي المقطع الرابع إكمال للحديث عن حدود الدلم، فيذكر أن بلدة نعجان والحزم تحد الدلم من الشمال، ومن الجنوب تلال شعارى. وهذا المقطع في سبعة أبيات.
5- وفي المقطع الخامس تاج القصيدة وسر تميّزها، ففيه يبين سبب تسمية الدلم بهذا الاسم فيقول:
سألتها مرة عن اسمها فَرَنَتْ
بالعين تسأل في استغراب مبتسم
أما ترى خمسة الوديان تغمرني
بالسيل والسيل يغني تربتي بدم
خصوبتي أنبتت في كل ناحية
مجموعة الشجر الملتف كالهرم
يقال (دُلْمة) أشجار لواحدة
فاجمع وقل عاشت الأسماء يا دملي
هذا هو الاسم أما الخرج يا ولدي
وصف حباه لي التاريخ من قدم
مذ كان قمحي من عهد الذبيح إلى
وقت قريب يُغطِّي حاجة الحرم
لم أجد مؤرخاً أو أديباً بين سبب تسمية (الدلم) و(الخرج) بتلك الأسماء، فالمؤرخون يلمحون إلى تسمية الخرج بأنها من إرسال الخراج إلى مكة والمدينة فسميت الخرج لأنها تنتج التمر والقمح ويرسل إنتاجها إلى كل مكان ومن ذلك مكة والمدينة. أما الدلم فلم يستطع أحد قبل العتيّ أن يبين سبب ذلك الاسم.. وكان سبقاً متميزاً لشاعرنا أن يكتشف السبب فيقول إن (دلمة) أشجار تطلق على واحدة وإذا جمعت قلنا (دُلم) و(دِلَم)، وقد أثنى معالي الشيخ راشد الخنين على ذلك التعليل وأيد الشاعر فيه. وكان هذا المقطع في ستة أبيات.
6- المقطع السادس: في تسعة عشر بيتاً حديث عن مشاعر الشاعر تجاه الخرج بعامة والدلم بخاصة فهو يقول:
يا قمة العز يا معنى الطموح ويا
مجداً تسامى مع الجوزاء يا حلمي
ويُعدّد صفات الخرج أو ما وهبته لأبنائها، وهي صفات يعشقها أصحاب الهمم والطموح، وأبرز تلك الصفات: العز والشموخ وحب الوطن، والجمال الفطري العفوي الأصيل، ودرع الفضيل، ومجد الماضي وعبق الحاضر.. إن شاعرنا يقول:
يا قمة العز يا معنى الطموح ويا
مجداً تسامى مع الجوزاء يا حلمي
هذا الشموخ سلوك فيك أعشقه
والزهر والفخر والإبحار في العظم
رضعته منك يا أماه في صغري
فأصبح اليوم من طبعي ومن شيمي
يا منبر الرأي يا درع الفضيلة يا
نجماً أضاء سماء الخرج في الظلم
كلية أنت للأمجاد ما فتئت
تزود الجيل بعد الجيل بالقيم
لغة شاعرية واضحة التعبير صادقة العاطفة قليلة الخيال وليس لذلك من سبب سوى أن الشاعر يتحدث عن حقائق وحُبّ خالط الأحشاء وسار مع الدماء وثبت في الشدة والرخاء، ومسك ختام القصيدة من مقطعها السادس أربعة أبيات تلخص غرض القصيدة وفكرتها وموضوعها وتفصح عن العلاقة بين الشاعر ومحبوبته الدلم (ترسانة الجود) إنه يقول:
يا سلة الخبز للدنيا بأجمعها
يا عشّ طير النَّدى يا منبع النّعم
سهولك الخضر من جوع تطمئننا
ومجد ماضيك ربّانا على الكرم
أمَّاه مجدك يغريني بمنزلة
فوق السّحاب ويغنيني عن الكلم
إني لأرفع رأسي بالفخار متى
سئلت عن بلدي أنّي من الدّلم
هذه قصيدة (ترسانة الجود) من الشعر العمودي الأصيل ومن البحر الطويل والقافية الميمية خرجت القصيدة أول مرة عام 1404هـ ثم راجعها الشاعر وأتمها وهذَّبها لتخرج بعد أكثر من عشرين سنة بهذه الحلة البهية.
ومما يستوقفنا في القصيدة أن الشاعر كرّر لفظ الخرج في القصيدة سبع مرات والدّلم ست مرات منها خمس مرات في قافية القصيدة!! منها أول بيت في القصيدة:
سفر من العز والأمجاد والقيم
تزهى بها صفحة الماضي عن الدّلم
وآخر بيت في القصيدة:
إني لأرفع رأسي بالفخار متى
سئلت عن بلدي أنِّي من الدّلم
وملمح آخر في القصيدة يستوقف الدارس لها وهو ذكر أسماء الأماكن والقرى والهجر مما يعطي القصيدة بعداً تاريخياً هاماً ومن تلك الأسماء: أبو ولد: اسم جبل، عُلية: سلسلة جبال، الضَّاحي: كثبان رملية تغطي مساحة تزيد على عشرين كيلومتراً طولاً في شرق الدلم، والمشطب والعقيمي والخفس والبياض: أسماء أماكن في شرق الدلم، ونعجان والحزم بلدتان تجاور الدلم من جهة الشمال، أما العلاقة بين الخرج والدلم فهي علاقة الكل والجزء، فالدلم جزء الخرج، حيث كانت الدلم عاصمة الخرج ومقر إدارته وإمارته ثم انتقلت الإمارة والإدارة إلى مدينة السيح التي بنيت من وقت قريب.
هذه إشارات سريعة إلى (توأم الحب): الأستاذ عبدالعزيز العتيّ الشاعر والدلم موطنه وآسرة حبه، جمعت أطراف هذا الحديث من لقاءات كثيرة مع أبي عبدالمجيد صديقي وأستاذي في أدب النفس والدرس.
وإني لآمل أن يتيح لنا فرصة الاستفادة والإمتاع بالاطلاع على غرر شعره في الدواوين الأربعة التي لم تطبع بعد، فلطلابه عليه حق ولوطنه حق أن تخرج أشعاره التي هي وثائق تاريخ وشواهد نهضة ومعالم شيم وأخلاق لوطنه وأبناء وطنه حق أن يدرسوا ذلك الإنتاج المتميز وينهلوا من معينه. متّع الله أستاذنا بالصحة والعافية ونفع به وبشعره، ومما نعتز به أن في بيته شاعر آخر لا يقل عن أبيه موهبة وقدرة وثقافة وإبداعاً، ذلك هو الدكتور الشاعر عبدالمجيد العتيّ أن نرى إنتاجه وعطاءه منشوراً ففيه دررٌ يشتاق لها رواد الأدب ومتذوقوا جماله وفنونه. ولا عجب أن يبدع الابن فالشبل من ذاك الأسد والشيء من معدنه لا يستغرب وسيل الربيع ينبت أروع الأزهار وأعطرها.
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية - ص ب 190 الدلم 11992