للكريم الشاعر عبدالعزيز بن سعود البابطين أعمال جليلة شاهدة على أريحيته وحبه للخير، ومن وجوه نشاطه الكثيرة المشرقة مؤسسة جائزته للإبداع الشعري، التي تضم في بردتها الضافية الجميلة -..
... إضافة إلى منح تلك الجائزة للمبدعين من الشعراء الأحياء - مكتبة عظيمة تزخر بدواوين الشعر والدراسات المختصة به، وإصدار معجم ذي أجزاء ضخمة لكثير من الشعراء، وإقامة دورات عن الشعر وما يتصل به من أدوات ووسائل، ومن وجوه ذلك النشاط لتلك المؤسسة إقامة ندوات مصاحبة لمنح الجائزة في بلدان مختلفة داخل البلدان العربية وخارجها، ومن حسن حظ كاتب هذه السطور وسعادته أنه كرِّم بدعوته إلى ثلاث دورات من ندواتها خارج الوطن العربي، إحداها في إيران، وأخرى في قرطبة، وثالثة في سراييفو، وهي مدار الحديث المختصر هنا.
كان الملتقى في سراييفو هو الدورة الثانية عشرة لملتقيات مؤسسة جائزة عبدالعزيز بن سعود البابطين للإبداع الشعري، وقد سُمِّيت (دورة خليل مطران ومحمد علي/ ماك دز دار). وكان الملتقى لتلك الدورة ثلاثة أيام هي: 19 و20 و21 من شهر أكتوبر الماضي. وكان برنامج اليوم الأول حفل افتتاح في الصباح تبودلت فيه كلمات تقدير، وتحدَّث فيه الرئيس البوسني، مبدياً آراءه الصائبة عن تنوع الحضارات وما ينبغي أن يكون عليه التواصل بينها، كما وزعت فيه جوائز المؤسسة على الفائزين بها.
وفي ظهر اليوم الأول عقدت الجلسة الأولى من ندوة حوار الحضارات، وفي مسائه عقدت الجلسة الثانية من تلك الندوة، أما في صباح اليوم التالي فرتبت جولة للضيوف في مدينة سراييفو، وأما في المساء فعقدت الجلسة الأولى من الندوة الأدبية. وكانت عن الشاعر البوسني محمد علي/ ماك دز دار: تجربته الشعرية وملامح الرؤية وجماليات التشكيل لديه، إضافة إلى حديث عن ترجمة أعماله إلى اللغات الأخرى، ومناقشات حول ما تُحدث عنه في تلك الندوة. وكان المتحدثون الرئيسيون من البوسنيين.
أما اليوم الثالث من الملتقى في سراييفو فكانت الجلسة الأولى من الندوة الأدبية في صباحه عن خليل مطران، وكان المتحدثون فيها من العرب. وكان جلسة بعد الظهر عن «المشترك الثقافي العربي - البوسني في العصر الحديث» وقد تحدث فيها عن الموضوع اثنان من العرب واثنان من البوسنيين.
ثم كانت الجلسة الأخيرة من الندوة الأدبية، في مساء ذلك اليوم عن «دور الاستشراف البوسني في التعريف بالأدب العربي»، وكان المتحدثون فيها من البوسنيين.
وكان لحضور شخصيات عربية وإسلامية لها مكانتها الرفيعة، فكرا وجهودا خيِّرة، ذلك الملتقى، إضافة بطبيعة الحال إلى شخصيات بوسنية رفيعة المستوى، وإلى روعة المكان وسمو أخلاق أهله، أثر كبير في إعطاء تلك الدورة وهجاً جميلاً وسداداً عظيماً.
وكان مما أدخل البهجة في نفس كاتب هذه السطور بالذات ما قام به سعادة سفير وطننا العزيز.. المملكة العربية السعودية.. الأستاذ عيد الثقفي من كرم ونبل عظيمين. ومن ذلك أنه دعا ضيوف الملتقى إلى مأدبة غداء في مقر المركز الإسلامي الذي أقامته المملكة، زادها الله توفيقاً وسداداً، في تلك البلاد، وحضر المأدبة السخية أكثر أولئك الضيوف، على أن السفير - أكثر الله أمثاله - زاد من أفضاله وفضائله، فأكرمني بأن هيأ لي أخاً كريماً من العاملين في السفارة، أخذني في جولة خاصة إلى منطقة خارج المدينة حيث منابع النهر الذي يمر بمدينة سراييفو، وكانت تلك المنطقة رائعة الجمال حقاً، لكن هل في البوسنة والهرسك إلا الجمال الرائع، إنساناً وطبيعة؟
وكان مما أخذني إليه الأخ الكريم من السفارة النفق، الذي كان المسلمون في أثناء الحصار الذي ضرب حول سراييفو يتنفسون من خلاله الصعداء، نقلا للأطعمة ووسائل الدفاع وتمريراً للمجاهدين، وقبل الدخول إلى النفق شاهدت معه عند مدخل ذلك النفق فيلماً عنه، ومن مناظر الفيلم امرأة مسنة كانت تناول كل جندي كوباً من الماء، وبعد الخروج مما دخلنا فيه من النفق كان من حظي وسعادتي أن كانت تلك المرأة المسنة نفسها جالسة على مقعد خشبي متواضع، فنعمت بالجلوس إلى جانبها برهة وإن كانت اللغة عائقاً في التفاهم.
ومما أتيحت لي زيارته في الدولة زيارة المقبرة التي دفن فيها أولئك المسلمون البوسنيون الذين قتلهم المجرمون من أعدائهم في المجزرة التي سميت مجزرة السوق، وكان ممن دفن في تلك المقبرة الرئيس المجاهد علي عزة بيغوفيتش، فدعوت الله له ولإخوانه الموارين في الثرى هناك بالرحمة والرضوان، ولي علاقة خاصة بذلك الزعيم المجاهد ورجل الدولة العظيم، فكراً وجهاداً، كما أن له ولشعبه المجاهد مكانة في نفسي، وأعلم أن هذه المكانة موجودة لدى كل مسلم، بل لدى كل إنسان ينشد الحق في العالم.
وكان من توفيق الله أن منح - تغمده الله برحمته ورضوانه - جائزة الملك فيصل في ميدان خدمة الإسلام عام 1413هـ/ 1003م، وذلك لما قام، فكراً وجهاداً في سبيل أمته الإسلامية بعامة وشعبه المسلم بخاصة، فمن عمله الفكري كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب)، الذي ترجم إلى لغات مختلفة، وكتابه «عوامل النهضة الإسلامية»، وكتاب «الأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية» وكتاب «هروبي إلى الحرية»، أما جهاده في سبيل حرية شعبه فالحديث عنه يطول ويطول.
وكنت قد أشرت إلى جهاد البوسنيين في أبيات من قصيدة عنوانها: «ما أعذب القول»! قائلاً:
والصرب ضد بني الإسلام قد كشفوا
ما أضمروا من نوايا مكرهم حقبا
وكشَّروا عن نيوب الحقد فارتكبوا
ما دونه بطش هولاكو وما ارتكبا
والسادرون من الحكام ما برحوا
يرجون من نهب الأوطان واستلبا
لمجلس الأمن قد مدُّوا أكفَّهمُ
ساء المؤمِّل والمأمول منقلبا
هل يفرض المجلس الدولي سلطته
إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟
وفي حفل منح جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام لذلك الزعيم.. علي عزة بيغوفيتش قدَّمته بهذه الأبيات:
من ذا الذي حمل اللواء فأقدما
وصبا إلى هام العلا فتسنَّما؟
بطل من الأبطال منذ شبابه
تخذ الجهاد إلى التحرُّر سُلَّما
رمز لشعب ريع خافق أرضه
واربدَّ وجه سمائه وتجهَّما
وجرائم الأداء تبدو عندها
أفعال هولاكو أعفَّ وأرحما
ومفسِّر القانون وفق مزاجه
يرنو أصمَّ إلى الجرائم أبكما
ويمارس التسويف خطة بارع
حتى يراق دم البريء ويعدما
ما كان أسرعه ليردع ظالماً
لو لم يك المظلوم شعباً مسلما
لكن جند الله مهما كابدت
سترى انتصار المؤمنين مُحتما
هذي البلاد - أبا الحسين - قيادة
وجموع شعب في مواقفه سما
مدَّت إليك يد التعاون واجباً
تزهو به لا منحة وتكرُّما