حركات التمرد والانفصال التي تشهدها بعض المناطق يُصرُّ قادتها ومنشئوها على أنها إنما قامت من أجل محاربة التمييز والتفرقة، وأن هدفهم الأساسي هو تطبيق الديمقراطية والمساواة.. هذه الحركات ما إن تحقق أهدافها حتى تتحول إلى أنظمة دكتاتورية يترحم مَنْ ابتُلي بحكمهم على مَنْ كانوا قبلهم قبل أن يبتلوا بهم.
أفضل مثال صارخ على ما نطرحه ما نراه الآن من سيناريوهات بدأت الحركة الشعبية في السودان بتنفيذها لغرض (انفصال السودان) وإجبار الجنوبيين على الأخذ بخيار الجبهة، وقد وصل الأمر بالجبهة الشعبية التي كانت تندد بالدكتاتورية والتسلُّط أن تمارس التهديد والوعيد بل وحتى الضرب بمراكز التسجيل في الشمال من أجل أن يقتصر التسجيل فقط على الجنوب، وبهدف أن يكون العدد محصوراً ضمن الفئات المؤكد ولاؤها للجبهة، التي ستصوّت لصالح الانفصال.
والآن، وبعد اقتراب فترة التسجيل من الانتهاء؛ حيث من المقرر له أن ينتهي في الثلاثين من هذا الشهر، فإن نسبة التسجيل بالشمال ضعيفة؛ إذ لم يصل عدد المسجلين سوى 9 آلاف شخص من بين نصف مليون جنوبي في الشمال وأكثر من مليون جنوبي تم تسجيلهم خلال الأسبوع الأول.
يقارب العدد المستهدف (4) ملايين شخص، وهذا يعني أن الحركة الشعبية ستكتفي فقط بالمسجلين بالجنوب؛ لذا فإنها تمارس الكثير من الخروقات لمنع التسجيل في الشمال؛ حتى يتسنى لها تنفيذ مخططها بتزوير الاستفتاء وممارسة الضغوط على المواطنين بالجنوب لأجل التصويت للانفصال.
والحركة الشعبية التي مارست التهديد بكل أشكاله بغرض منع الجنوبيين بالشمال من التسجيل شهد ضدها فريق الأمم المتحدة المراقب لعملية الاستفتاء؛ إذ اتهم قيادات جنوبية بالتورط في منع الجنوبيين من التسجيل في الشمال، وأنها نفذت حملات منظمة للغرض ذاته.. فالحركة الشعبية جنّدت مجموعة تقوم بالتهديد وبث الرعب وسط الجنوبيين في الشمال متهمة مَنْ يرغب في التسجيل بأنه عميل للمؤتمر الوطني، وأنه سيفقد حقه في التصويت حال تسجيل اسمه في مركز الشمال، وأن الاستفتاء بالشمال سيكون مزوراً، كما أن أعضاء لجان التسجيل المنتمين للحركة الشعبية يرفضون تسجيل الجنوبيين المسلمين الذين يحملون أسماء عربية..
في هذه الأجواء المشحونة بالتوترات، والبلاد مقبلة على مرحلة خطيرة يتحدد خلالها مصير السودان، إما أن يكون موحداً أو منفصلاً إلى دولتين، تحتضن الحركة الشعبية الحركات المسلحة بدارفور بدءاً من حركة عبدالواحد محمد نور ثم حركة مناوي وحركة خليل إبراهيم والحركات المسلحة الأخرى، كل هذه الحركات تتجمع في جوبا تحت رعاية ودعم لوجستي من الحركة الشعبية، والهدف واضح للمتابع لمجريات الأحداث في السودان؛ فبعد أن يتقرر مصير جنوب السودان الذي يتجه نحو الانفصال هذه الحركات المسلحة ستتحد لحرب المركز، وهو ما تخطط له الحركة الشعبية، فبعد أن يتحقق لها هدفها الأول بانفصال الجنوب لن تكتفي بذلك بل ستتوغل شمالاً لتضم مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان وجزءاً من مناطق النيل الأبيض، وتسعى مع الحركات المسلحة لاقتطاع إقليم دارفور؛ ما جعل بعض القيادات بالحركة الشعبية تطلق تهديداتها بأنهم بعد الانفصال سيجتاحون الشمال من كوستي إلى توتي!!
فهذه الأمنيات والمخططات (الخبيثة) تفسر إصرار الحركة الشعبية على إجراء الاستفتاء دون حسم ترسيم الحدود وقضية أبيي.. هذه القضايا قد تكون نذر حرب بين الدولتين حال انفصال الجنوب.