الهجرة كلها درس عظيم في كيفية اللجوء إلى الله عز وجل لجوءاً مطلقاً، فهي منذ أن بدأت مدرسة كبيرة لا يلتحق بها إلا من تعلقوا بالله عز وجل، وأحسنوا اللجوء إليه، وصدقوا ما عاهدوه عليه، وأيقنوا به تمام اليقين.
لقد أثبتت مدرسة (الهجرة الإسلامية) أن طلابها هم أصحاب الإيمان الراسخ، واليقين الثابت، والعزيمة التي لا تعرف النكوص.
نحن نقرأ أخبار الهجرة المباركة في بطون الكتب، ونطلع على بعض تفاصيلها من خلال ما نقل عنها المؤرخون،وروى عنها الرواة، وينالنا الإعجاب بها، وبأصحابها، ونتفاعل معهم، ونجلُّهم لما نطلع عليه من مواقفهم العظيمة، ولكننا - في ذلك كله - بعيدون عن ملابسات الأحداث قبل وأثناء وبعد وقوعها، ولا نستطيع -في رأيي- أن نستوعب أحداث تلك الهجرة استيعاباً كاملاً إلا إذا وضعنا أنفسنا في خضمها، و تخيلنا أننا نعيش تفاصيلها كما عاشها أولئك المؤمنون الأخيار.
لنتخيل -الآن- أننا قد عانينا من أذى المشركين بسبب إسلامنا، واعتناقنا لدين الله الحق، واتباعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأننا قد أصبحنا أمام حقيقة لا مناص منها، وهي حقيقة المواجهة الفعلية مع عتاة قومنا وطغاتهم، وأن هذه المواجهة ستكلفنا فقدان الراحة والأمن والاستقرار في وطننا، وفقدان الاجتماع مع أهلنا آباء وأمهات وزوجات وبنين وبنات وإخوة وأخوات، و ستدفعنا إلى أن نخرج من بلادنا، وبيوتنا، وأن نفقد أموالنا التي تعبنا في جمعها، ونسلخ منها دون أي مقابل في الدنيا، وإنما نفعل ذلك ثمناً لإيماننا بالله، ورغبة فيما عند الله في الآخرة، وهذا يعني أن المقيم منا سيصبح مسافراً سفر الشريد الخائف، والغني منا سيصبح فقيراً محتاجاً، وأن القوي بأهله وجماعته وقبيلته سيصبح ضعيفاً بغربته، وتنقله في البلاد، بلا مال ولا أهل ولا ولد.
لنتخيل أنفسنا في هذا المقام، حتى ندرك صعوبة اتخاذ قرار الهجرة، وخطورة هذا القرار، وحتى نشعر بمدى التردد الذي سيحدث في النفوس، والقلق الذي سيشتعل في القلوب، والخوف من المجهول الذي سيضخم في نفوسنا صعوبة (قرار الهجرة).
هنا يمكن أن نعطي الهجرة حجمها الحقيقي الكبير في مسيرة اللجوء إلى الله عز وجل، وأن نقدر قيمتها بصفتها مدرسة عظيمة لهذا اللجوء. وهنا يمكن أن نؤمن إيماناً قاطعاً بأن تثقيف أنفسنا وأهلنا بثقافة مدرسة الهجرة إنما هو رقي بالعقول والقلوب إلى أعلى درجات اللجوء إلى الله عز وجل، والاعتماد عليه وحده دون سواه.
إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهما في غار ثور مختبئان من قريش (ما بالك باثنين الله ثالثهما) هو العنوان الكبير المنقوض على واجهة مدرسة الهجرة التي لا ينتمي إليها إلا الذين أسلموا إلى الله أنفسهم دون تردد أو اضطراب، وتعلقوا به وحده دون شك أو ارتياب، وهذا ما تحقق في أصحاب تلك الهجرة المباركة بدءاً بهجرتي المسلمين الأوائل إلى الحبشة، وانتهاء بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد أن هاجر إليها من سبق من أصحابه الكرام رجالاً ونساء.
تركوا الأرض وهم يحبونها، والأولاد والألم يعتصر قلوبهم حزناً على فراقهم، والزوجات وهم مشتاقون إليهن، والآباء والأمهات وهم يبكون حرقة على فراقهم، والأموال وهم بأمس الحاجة إليها، وفي قصة (صهيب) الرومي الذي نزل عن ماله كله مقابل هجرته إلى ربه دليل واضح، وأنموذج أمثل، وقد حظي ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن بيعه قد ربح، وأن صفقته من أعظم الصفقات التجارية التي عرفها البشر.
إذا أردنا أن نشعر بعظمة مدرسة الهجرة النبوية، فلنضع أنفسنا موضع أصحابها الكرام الذين لجأوا إلى الله وحده دون سواه، فكانت رعاية الله معهم، وكان نصره المؤزر في الدنيا مكافأة عاجلة لهم، وكان وعدهم بالفوز بالجنة مكافأة مؤجلة لهم وبشارة جليلة بشرهم بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللجوء إلى الله تعالى هو أعظم درس من دروس الهجرة النبوية، فما أحوجنا إليه، إلى فهمه واستيعابه وتطبيقه.
إشارة:
فالله عوني جل من عالم
بالسر من أمري وبالمعلن