لا ينبغي الاستسلام لما يرد من مصطلحات يوظفها المضاؤون في الشاشات على المنابر أو في برامج الحوارات أو في أي مكان ينتشر فيه صوتهم وتعلو فيه كلماتهم، بهدف الاقتداء بمدلولاتها على أنها «ثقافة» جديدة وافدة، لا ينبغي ذلك لأن كثيراً من المصطلحات تتردد ليس فقط على ألسنة اللاقطين لها في حواراتهم الفردية أو الجمعية، أو أحاديثهم الهامشية, بل غدت ضمن ما يقدم بجدية في مؤتمرات علمية، وملتقيات على اختلاف اختصاصاتها في مرافق تجدُّ لأن تتطور مرافقها، أو تتقدم عناصرها، ولا أدل على ذلك من مصطلحي «ثقافة السلام» و»الجودة»..
ومنذ وطد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم الحياة للإنسان، وبدأها بحياة المسلم، بناها على أساسَيْ السلام والإتقان، فسلام النفس تكامل خلقها، ولا يتم للمرء خلقه أو يكاد ما لم يكن في طاعة ربه ورسوله، تلك الطاعة المنبثقة من الإيمان أس الفلاح، ومن ثم أس السلام، ذلك المتجذر ومن ثم النابت النامي بالرضاء, الباعث لفهم العلاقات بين هذه النفس وقالبها الجسد, بدمه ولحمه وجلده وعظامه, مندمجاً بحسه وشعوره، وعقله وقلبه، وبين الحياة والأحياء، فيتكون له من معرفة ما له وما عليه، وما هي الحدود التي تقيه الخروج من أمن السلام، وتضعه في قيود محاذير العقاب، سواء عقاب الرب تعالى، أو عقاب البشر، في هذه الحدود يأتي دور الإتقان لما يعمل؛ لأن كل ما تُحدث به النفس عند التطبيق لدى النفس المؤمنة لا ينبغي أن يطبق فعلاً, إلا ما وافق منه سلام العاقبة، المرتبطة بسلام النفس، وفي أوسع مدى لسلام النفس معرفتها بربها، تلك المعرفة المكونة من الخشية والمراقبة، وهما مكنونا الإحسان، الذي هو في علاقة المخلوق بخالقه معرفة أن الله يراك فإن لم تكن تراه فإنه يراك, ولا أصدق من الإتقان في ضوء الخشية من زلل الضعف البشري في أداء الأمانة، ما قرب منها في حق النفس ذاتها، وما بعد منها في حق كل من يتعامل، أو يعمل معه المرء.
لذا فثقافة السلام إنما هي السلام ذاته الذي حث عليه الدين، وثقافة الجودة هي الإتقان ذاته الذي يستوجب الوعي بحضور الله تعالى عالما بكل دقيق وجليل، فيما يقول المرء ويعمل، فيما يحدث به نفسه أو تؤديه جوارحه.
هذه الحقائق ينبغي لكل من يتصدى للحديث عن السلام والجودة أن يتذكرها، فيرُد المصطلحين لأصلهما.. وقد كثرت البرامج الحوارية التي تتحدث عنهما، على أنهما واردتان مع ما ورد لمجتمعنا من ثقافات الانفتاح والدمج, أو لعلهم يبعثونهما بعامل إلحاح الوقت عليهما، مع أنهما ينبغي أن يكونا خلقاً لازماً بلزوم الانتماء للإسلام في سلوك أفراد يوسمون به.
أذكر أن بحوثاً تناولت مرجعية هذه الخبرة ومصادرها سنة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في تنشئة المسلمين الأولى، ومقالات كُتبت في الشأن كان لي فيهما نصيب وافر، يمكن العودة إليها في بعض أوراق عمل بجامعة الملك فيصل، وإدارة تعليم منطقة مكة المكرمة وفي مقالاتي.