أطفالنا قلوبنا النابضة بالحياة في كل إقبال وإدبار، نفرح بمجيئهم للحياة منذ الصرخة الأولى بل قبل ذلك، ونتهيأ لتلك الفرحة مبكراً، وحين تأتي اللحظة المنتظرة، الموعودة، والحمد لله على كل حال وعلى جميل عطائه، وجزيل فضله وإحسانه، إذ إنّ أمر المؤمن أمره كله له خير، أن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له.
- حينما تتمخّض الأم عن طفل مريض بمرض يلازمه طوال حياته، حينها يزغرد الجرح، وإذا زغرد الجرح ... تجذّر الحزن وامتدت عروقه في كل مساحات الأمل ... يحيل الخضرة والاخضرار إلى حطام إنْ لم نسقه بجرعات الأمل والماء والحب ... إن لم نروه زوادة من تدفُّق المشاعر وصيرورة الحياة وتدفُّقها. إن لم نفعل ... سيرتحل الحلم والفرح والأمل ويسكن اليباس وتتعرّى الأغصان المورقة.
- فمثلاً حينما تلد الأم طفلاً وتكتشف، بل تفجع بأنّ وليدها مصاب بمتلازمة (داون), وذلك يعني أنه بحاجة لعنايتها الشديدة، أضعاف عنايتها بأطفالها الأصحاء، تُرى ماذا سيكون حالها وقد علمت أنه ليس هناك مدارس في منطقتها تحتضنه ؟ ولا مراكز مهيأة لهؤلاء النفر من الأطفال، هل تبعث به للمناطق الكبيرة والمراكز المتخصصة وتتركه، تزوره من حين لآخر، حتى ينسى مع الوقت ملامحها، ويفقد العنصر الأهم في العلاج، أو تجلس بقربة، وتضّيع بقية أفراد الأسرة، أو تبقيه بجوارها حيث لا تعليم ولا تطور في حالته الصحية، وتتحول حياتها إلى مأساة ، تتعذب بكل نظرة إليه، تشفق عليه، ماذا عسى أن يصنع به الزمن لو بقي دون تعليم وعلاج، كيف ستكون حياته بعدها، عتمة ليل ... وحشة مكان.
آهة الأم المكلومة، من يسمعها ؟ وإن سُمعت، من يشعر بألمها وحرقتها ؟ ومن يشعر بحرقتها، ما مدى مقدار المساعدة التي يمكن أن يقدمها، ليس من باب التفضُّل والإحسان، بل من باب المسئولية، والتكافل الاجتماعي الذي حث عليه ديننا الإسلامي.
هؤلاء الأمهات لا يستجدين العطايا والصدقات ويطالبن بحقوق، لا هبات.
آه، ألا ما أشقى حياة الأمهات، وما أقضّ مضاجعهن ! لا يطيب لهن عيش، إلاّ إذا طاب عيش فلذات أكبادهن، ولا يغفو لهن جفن إلاّ إذا طابت مضاجعهم، وأطبقت على لذيذ النوم جفونهم، هذا في حال الأبناء الذين ينعمون بصحة جيدة، فكيف إذا كان الابن يعيش معاناة ويقاسي الآلام، لهن الله، ما أقوى صبرهن، فمع عظم الألم ، أشعر بأنهن يترفّعن عن الشكوى إلاّ ما ندر, يتترّسن بالصبر، ولسان حالهن يقول عن الوجع الذي يعتريهن:
ما اهتز منه على عضو ليبتره
إلا اتقاه بترس من تجلده
حينما أستمع لبعض أحاديثهن، تنتابني لحظات كآبة، وأحس قشعريرة تسري في جسدي، وتعتصر قلبي، خوفاً من مفاجآت القدر.
الوضع لا يحتمل التأنِّي أو التأجيل. ففي منطقتنا عدد ليس بالقليل من هذه الفئة الغالية، والتي تعصرنا ألماً كلما رأتهم العين وطاف الوجع مساحة الأمل والألم في نظرات الإشفاق والعطف، إنهم منا وفينا لبنات في نسيجنا الاجتماعي، يحتاجون منا ابتسامة تمسح عنهم ذاك الشعور بالحزن ويحتاجون منا الرعاية والتي تشعرهم بأنهم يحظون منا مثل أقرانهم. الحاجة ملحّة، والأمل كبير في أن يُوفر لهم المركز المتخصص، ويحظوا بوجوده برعاية مثلى واهتمام يعطيهم الأمل ويريهم الدنيا بنظرة الرضا والتفاؤل، ولأننا نعلم بل وعلى يقين بأنّ حكومة رشيدة أعطت ولم تبخل أو تضن بشيء يسعد المواطن وقد تعوّدنا منها العطاء بسخاء في مجالات عدّة، بعضها ضروري وبعضها كمالي وترفيهي، فكيف بمثل هذه الحالات وهي التي بأمسّ الحاجة إلى مسحة من يد حانية وعاطفة من قلب يغدق الحنان والعطاء، ففي منطقتنا (القريات) من هذه الفئة من الأبناء من يتطلّع ذووهم لوجود مركز يعنى بهم ويزيح عن الأمهات أولاً والآباء ثانياً, أعباء رعاية تتطلّب الكثير من المشقّة، وتجرع الحسرات، وأدمع تكفكفها لحظات إيمانية ودعوات في ظهر الغيب لكل من سيساهم في إنشاء مركز متخصص لرعاية وتعليم أطفال متلازمة داون منذ سنوات العمر المبكرة.
آخر الكلام
قال صلى الله عليه وسلم (يُحشر قوم من أمتي يوم القيامة على منابر من نور يمرّون على الصراط كالبرق الخاطف نورهم تشخص منه الأبصار لا هم بالأنبياء ولا هم بصديقين ولا شهداء .. إنهم قوم تقضى على أيديهم حوائج الناس).