إذا كانت الإدارة الأميركية ترى نفسها الراعي الرئيس للعملية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى بوجود الأوروبيين والروس ومنظمة الأمم المتحدة، ووسيطاً نزيهاً يسعى
بفعالية لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وصولاً إلى التطبيع الكامل بين دولة الكيان الصهيوني والدول العربية، فهل مواقفها الدولية ومقترحاتها السياسية ووساطتها الدبلوماسية في قضية السلام تحديداً تتصف بالحياد أم يشوبها الانحياز لصالح إسرائيل؟ هذا السؤال ليس عسيراً عن الإجابة قياساً بتاريخ السياسة الأميركية الخارجية الداعمة للكيان الصهيوني منذ قيامه عام 1947م، حتى في تبرير أعماله الإرهابية بحق الشعب الفلسطيني، أو عدوانه الإجرامي على بعض الدول العربية، فضلاً عن تأكيد الرؤساء الأميركيين خلال تصاريحهم الانتخابية أو خطاباتهم العالمية أهمية أمن إسرائيل في قائمة أولويات المصالح الأميركية الكبرى، لدرجة أن كثيراً من المفاهيم الإنسانية قد تتبدل في المنطق الأميركي عندما تقع إسرائيل في دائرة النقد الدولي، فالعدوان الإسرائيلي صار دفاعاً عن النفس، ودفاع الطفل الفلسطيني عن نفسه هو العنف المؤدي للإرهاب، وغير ذلك.
مع هذا يمكن تبرير الانحياز الأميركي لصالح إسرائيل وفقاً لسياسة المصالح القومية العليا لكل بلد، خصوصاً أن هناك دولاً في القضايا العالمية تنحاز إلى مواقف دول أخرى ترتبط معها في مصالح عليا، لكن الإشكال أن الانحياز الأميركي لصالح إسرائيل ضد العرب لم ينحصر في دائرة الموقف السياسي، أو يقف عند حدود الدعم العسكري، إنما تجاوزه إلى التعدي السافر على الحقوق الإنسانية للشعوب، التي تعترف بها أمم الأرض ومسجلة في مواثيق منظماتها، لهذا يكون السؤال أكثر تحديداً: (هل مواقف الإدارة الأميركية ومقترحاتها السياسية في قضية السلام تتصف بالعدالة والواقعية والإنسانية)؟
إجابة السؤال تبدو واضحة من خلال استعراض جزئية معينة في عملية السلام، وهي الجزئية التي كانت سبباً في توقف المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأعني بها مسألة (الاستيطان الإسرائيلي)، التي لم تفضح حقيقة السلام (الوهم) الذي تريده إسرائيل، إنما كشفت حقيقة الموقف الأميركي من السلام المنشود، الذي لا يحقق أبسط الحقوق الطبيعية للإنسان الفلسطيني. فالمتابع لهذا (السرطان الجغرافي) يُدرك أنه تحول إلى (وسيلة ابتزاز مكشوفة) تمارسها إسرائيل مع الفلسطينيين بطريقة غير مباشرة، مستندةً على رؤية أميركية منحازة لأجندتها السياسية، وموقف متراخ يفتقر للحزم الذي عرفته السياسة الأميركية، خصوصاً ضد الأنظمة العربية والإسلامية، بدلالة أن الفلسطينيين يقدمون التنازلات تلو الأخرى كي تستمر عملية السلام على أمل نيل (فتات دولة)، في مقابل الإسرائيليين الذين يتبعون إستراتيجية ذكية تقوم على (رفع سقف المطالب) أعلى بكثير من مطالب المرحلة الراهنة، بحيث يعد تراجعهم (تنازلاً)! وهذا يبدو جلياً في لعبة الاستيطان التي مارستها إسرائيل ووجدت تجاوباً أميركياً، ما يعطي انطباعاً أن الولايات المتحدة لا تريد سلاماً عادلاً، إنما وهماً قائماً لتمرير المشروع الصهيوني، من خلال فرض الأمر الواقع عبر تهويد الأرض تحت مظلة مفاوضات السلام، التي تتوقف بسبب الاستيطان وتعود بالضغط على الفلسطينيين واسترضاء الإسرائيليين.
فبالأمس أعلن باراك أوباما في خطابه الخاص بالعالم الإسلامي، الذي ألقاه في جامعة القاهرة المصرية، يوم 4 يونيو 2009م رفضه استمرار المستوطنات، لأنها ضد عملية السلام، واليوم تُقدمُ إدارته خطة (الحوافز الأميركية) لإسرائيل، أشبه ب(المكافأة السخية) التي تتعارض تماماً مع الأهداف الرامية لإقرار السلام على أرض الواقع، كما تقدح ب(عدالة) الموقف الأميركي بشكل جلي، لأنها تأتي على حساب (الحقوق الإنسانية) الرئيسة للشعب الفلسطيني، خاصةً أن خطة الحوافز تقضي بتجميد الاستيطان لمدة (90) يوماً فقط في الضفة الغربية وليس القدس الشرقية، وكأنَّ هذا التجميد مهلة خفية لمخادعة العرب والفلسطينيين لجرهم نحو طاولة المفاوضات، ومن جهة أخرى إعطاء الشرعية لتهويد القدس، زد على ذلك أن الاستيطان في القدس الشرقية أحد الأسباب الرئيسة في فشل المفاوضات.
كما تقضي الحوافز بعدم مطالبة الحكومة الإسرائيلية بتجميد الاستيطان مرة أخرى، وكأنَّ الإدارة الأميركية ب(عدم المطالبة) تخلي مسئولية إسرائيل سلفاً من فشل مفاوضات السلام، باعتبارها قد أسقطت السبب الرئيس في هذا الفشل وهو الاستيطان، رغم أنها تعرف أكثر من غيرها أن الاستيطان هو الذي وضع عملية السلام في هذا المأزق، فقد تضاعف ثلاث مرات منذ اتفاقية أوسلو عام 1993م، التي تعتبر مرجعية هذا السلام المزعوم، وبهذا يسهل ابتزاز الطرف الفلسطيني لأجل القبول بمطالب إسرائيلية أخرى. فضلاً عن حوافز أخرى ضمن الخطة الأميركية كتسليح إسرائيل بطائرات أف 35 بقيمة 3 مليارات دولار، والوقوف ضد كل القرارات الدولية التي تنتقد إسرائيل، وكذلك استخدام الفيتو الأميركي ضد كل المساعي الفلسطينية في المنظمات الدولية لإعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد في حال فشلت أو تعثرت عملية السلام.
إن هذه الحوافز في إطار تاريخ السياسة الأميركية مع الصراع العربي الإسرائيلي يبرهن على أن الولايات المتحدة ليست وسيطاً في قضية السلام، إنما شريك مع الجانب الإسرائيلي، ما يعني أنها تتفق بشكل رئيس مع التوجهات الإسرائيلية في تحقيق وهم السلام، وليس السلام العادل الذي يعتقد العرب والفلسطينيون بإمكان تحقيقه بعد أن أسقطوا خيار المقاومة ووضعوا السلام خياراً إستراتيجياً في مقابل عدو شرس ووسيط منحاز لا يتصف بالعدالة التفاوضية، ناهيك عن الواقعية السياسية التي تجعله يدفع المنطقة نحو الانفجار.