منذ أن صافحت عيناي ملامح مدينة الرياض قادماً إليها ملتحقاً بكلية اللغة العربية فيها، وأنا أشعر بعلاقة عاطفية من نوع خاص، والحب -كما يقولون- ينشأ من النظرة الأولى، والرمح يثبت عند الركزة الأولى، ولذلك كان التوجيه النبوي الشريف بالنظرة المشروعة بين الخاطب ومخطوبته لأن ذلك أجدى أن يؤدم بينهما، وما أروع هذه العبارة النبوية (يؤدم) لما لها من الإيحاءات العجيبة، والإضاءات البديعة.
حينما صَعِدَت سيارة خالي (أحمد) رحمه الله بنا (طلعة) ديراب، قادمين إلى الرياض بعد سفر من قرية عراء في الباحة بدأناه بعد صلاة الفجر، كانت الشمس متلفعة بملاءة الغروب الحمراء، وكانت الرياض ما تزال محصورة في أحيائها القديمة (المربع- البطحاء - الناصرية - الملز - الحلة - منفوحة) وغيرها من الأحياء الملمومة على بعضها، المتعانقة عناق تآلف، ومودة، وانسجام.
حينما رأيت نخيل الرياض، شعرت براحة نفسية خففت عني ما اشتعل في قلبي من الحزن على فراق والدتي -رحمها الله- وإخوتي وأقاربي، ومرابع الطفولة والصبا التي عايشتها ثمانية عشر عاماً معايشة المغرم المفعم قلبه بالحب، وجففت ما كان ينهمر من الدموع أثناء السفر.
لم يمض بي إلا أيام قلائل حتى أصبحت الرياض حبيبة إلى قلبي، خاصة بعد أن استقبلتني كلية اللغة العربية في مقرها القديم في (البطحاء) بجوها العلمي الآسر، وأساتذتها الفضلاء، وطلابها القادمين من أنحاء المملكة متطلعين إلى العلم والمعرفة.
وما زلت أذكر وقفتي الطويلة أمام جامع الديرة القديم، ومبنى المصمك الشامخ، ومقر إمارة الرياض المتوشح بوشاح العراقة والأصالة، الذي تفوح منه رائحة العود والقرنفل والهيل والزنجبيل.
لقد كانت وقفة عاطفية مشحونة بمشاعر عجيبة، وأنا أقرأ تاريخاً طويلاً في هذه القلاع الطينية التي تكاد تتحول جدرانها إلى شاشات عرض لأحداث وقائع جرت عبر سنوات طوال سبقت تلك اللحظة الحاسمة التي انطلق فيها الصوت من شرفات المصمك مردداً (الملك لله ثم لعبدالعزيز).
إنها وقفة (المعاهدة العاطفية بيني وبين مدينة الرياض) معاهدة، وقع عليها الطرفان بريشتي الحب والراحة والانسجام.
من ذلك الوقت «عرف الطالب القادم من قريته مفعماً بالطموح» سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض اسماً ورسماً، وعرف مدى العلاقة الوطيدة بينه وبين معشوقته (الرياض) وبدأ يسمع أخبار حب هذا الأمير لهذه البدوية التي تعرف كيف تملك قلب من يراها بعين ثاقبة لا يخفى عليها جمالها البدوي الأخاذ.
وأهلني الشعر الذي بدأت أعرف به من خلال الاحتفالات والندوات التي كانت تتميز بها الكليتان العريقتان (كلية الشريعة واللغة العربية) والمعاهد العلمية التابعة آنذاك للرئاسة العامة للمعاهد العلمية.
أقول: أهلني الشعر أن ألتقي بسلمان بن عبدالعزيز، فارس الرياض الذي عرف كيف يركض بها في ميادين التوسع العمراني والتطوير حتى وصلت إلى ما نراه الآن، التقيت به فرأيت التشجيع الذي أدركت به أنني أمام أمير يحب الثقافة والأدب، ويتذوق الشعر، ويعرف قيمة الكلمة.
إنها الصورة المتكاملة للرياض التي غرست في نفسي شتلة التآلف مع هذه المدينة العريقة، بجامعها العتيق، ومصمكها الذي يتوسد الأصالة، ونخيلها الذي يرسم لوحة العطاء والشموخ، وأحيائها المتقاربة المتعانقة، وسلمانها الذي فرش لها بساطاً بديعاً من حبه وحرصه على تقدمها واستقرارها.
صور كثيرة تداعت إلى ذهني، وأنا أشعر بغبطة المستبشر برجوع صديق المثقفين والأدباء سلمان بن عبدالعزيز بعد رحلته العلاجية، لابساً بفضل الله ثوب العافية وكأنني بالرياض تقول:
مرحباً بالندا وأهلاً وسهلا
أخصَبَ الروضُ بعد أن كان مَحْلا
إشارة
ذلك المجد شفاهٌ نطقت
وأزالتْ عقباتِ الإحنِ