لم تكن أيام الحج لهذا العام بالنسبة لي عادية، حالها كحالها في كل عام، فقد أكرمني المولى عز وجل بقضاء فريضة الحج، تلك العبادة العظيمة التي تمثل ركناً من أركان الإسلام الخمسة، ولستُ هنا في مقام كتابة مقال عن الحج وأعماله وما فيه من حكم وإيمانيات، بل في سياق تسطير بعض المشاعر والرؤى، وتجسيد شيء من الأفكار والمعاني التي كانت تزاحم ذهني، وتخالج قلبي، أحببتُ أن أنقلها في بث مباشر، من على أرض هذه المشاعر المقدسة.
إنه لمن الصعب أن يستشعر الإنسان الموقف ما لم يعشه، ومن العسير أن يحاول معايشة النص القرآني الذي يصف مشهداً من مشاهد الهيبة والجلال ما لم يكُن هو بنفسه وسط هذا المشهد، ليعيش تفاصيله، ويشهد لحظاته، فقد كنت أقرأ عن الحج، وأصغي إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن مشاهده وأحكامه، لكني لم أدرك منها ما أدركه الآن بعد أن منَّ المولى عليَّ بأداء هذه الفريضة العظيمة، فشهدت أثناءها كثيراً من المواقف، وشاهدت حينها العديد من المناظر.
والأهم من هذا وذاك استشعار تلك النصوص القرآنية التي تصور بفنية عالية مشاهد هذا النسك العظيم، وإدراك حُكمِهِ وحِكَمِهِ وأحكامه، والقدرة على معرفة السبب الذي جعل القرآن الكريم يأمر بأمور وينهى عن أخرى، معرفة لم تكن لتُبلغ لولا إكرام الله عز وجل على المرء بأن يشهد فريضة الحج، ويؤدي مناسكه.
إن المرء لتغزو قلبه المشاعر الإيمانية منذ اللحظة الأولى التي يخلع فيها لباسه العادي، ويرتدي لباس الإحرام، سواء قام بهذا في منزله أو حين يمر من الميقات، فالتجرد من الثياب بمثابة استهلال افتتاحي للدخول في أجواء هذه الفريضة العظيمة، وتبدأ هذه المشاعر الإيمانية بالتغلغل شيئاً فشيئا مع كل خطوة يخطوها الحاج متوجهاً إلى هذه المشاعر المقدسة.
وهناك في (مِنَى) يكون الاجتماع الأول لضيوف الرحمن حيث تجمعهم مشاعر واحدة، ولباس واحد، ونية واحدة، وأمانٍ واحدة، ويكون يوم (التروية) بمثابة اللحظات الأولى للاستعداد لتأدية مناسك الحج، والتهيؤ الأولي للدخول في الأجواء الإيمانية الرائعة، ومنها تُربط الأحزمة، استعداداً للإقلاع في فضاءات هذه الشعائر المؤنسة، والمشاعر المقدسة.
ومنذ الساعات الأولى لإطلالة التاسع من ذي الحجة يوم عرفة تبدأ وفود الرحمن في التوجه إلى (عرفة) لقضاء هناك لحظات هي من أعظم لحظات الدنيا في كل عام، ويعيشون ساعات يومٍ هو خير يومٍ طلعت عليه الشمس.
في ذلك اليوم العظيم يستشعر الحجاج عظمة اللحظات التي يعيشونها، ولذلك تجدهم يلهجون بالدعوات، ويقبلون إلى الرحمن الرحيم بطلب المغفرة، ويتوجهون إلى الكريم المنان بتحقيق الأمنيات وتلبية الرغبات.
وحين تبدأ شمس هذا اليوم بالتوديع، ويشرع شعاعها بالتلاشي، وتستعد جيوش الظلام، وجماعات المساء لاحتلال مساحات هذا اليوم العظيم تنهض هذه الوفود الغفيرة في تلاحم والتئام، تنطلق بكل يسر وسهولة إلى المشعر الحرام، إلى مزدلفة، تلبية لنداء الرحمن، واقتداء بالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: (خذوا عني مناسككم)، وهناك يصلي الحجاج المغرب والعشاء، ويعيشون لحظات الطمأنينة، ترفرف عليهم نسمات السلام، وتملأ صدورهم رهبة الموقف، وعظمة اللحظة، ويسلمون أرواحهم للبارئ الكريم، ويأخذون قسطاً من الراحة بعد يوم طويل وإيماني، فيبيتون تلك الليلة هناك استعداداً ليوم الحج الأكبر الذي اقتربت شمسه من البزوغ.
وعند إطلالة هذا اليوم العظيم، يوم النحر، يوم الحج الأكبر، وبينما يخرج المسلمون في كل بقاع الأرض لأداء صلاة العيد، وينطلقون بعدها لنحر ضحاياهم تقرباً إلى المولى الكريم وشكراً له واعترافاً بنعمه وأفضاله، بينما هم كذلك يكون لحجاج بيت الله الحرام وضع خاص، وعمل متميز، وتنتظرهم مجموعة من المناسك لا يفعلها أحد سواهم، بدءاً من الانطلاق إلى رمي جمرة العقبة الجمرة الكبرى.
وهنا يشدك هذا المشهد العظيم وأنت ترى هذه الجموع الغفيرة على اختلاف جنسياتها وأعراقها وأجناسها تتجه في وقت واحد إلى مكان واحد لأداء فعل واحد، كل واحد منهم يحمل معه سبع حصيات لرمي هذه الجمرة، دون أن يسألوا لماذا نفعل ذلك؟ وما الحكمة من كل هذا؟ وما ذاك إلا لأن قلوبهم قد تشبعت بالإيمان المطلق، والتسليم لأوامر الله عز وجل، واقتداء بسنة رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثم تتوجه هذا الوفود إلى أداء آخر الأعمال التي يتحلل بعدها الحاج، وهو الحلق أو التقصير الذي يعد العمل النهائي الذي يسمح للحاج بعده بخلع إحرامه الذي رافقه منذ اليوم الأول في الحج، ويتوجه بعد ذلك إن أراد إلى البيت الحرام لأداء طواف الإفاضة وسعي الحج مع تلك الجموع الغفيرة، وقلبه يعبق بنسمات الإيمان ونفحات الاطمئنان.
ولأيام التشريق الثلاثة بعد ذلك نكهة خاصة، وروحانية متميزة، ففيها يستقر الحجاج في منى، ويأخذون قسطاً من الراحة، وتتوحد أعمالهم في تلك الأيام، ففي كل يوم تتوجه هذه الوفود إلى رمي الجمرات الثلاث: الصغرى والوسطى والعظمى، في طمأنينة تامة، وأمان كامل.
واقتداء بأمر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يولي الحجاج وجوههم شطر المسجد الحرام لتوديعه بطواف هو طواف الوداع، وأعينهم تفيض بالدموع، وقلوبهم تتفطر من الحزن وهم يعلمون أن هذا الطواف هو آخر لحظات الحج، ونهاية مشاهد هذا النسك العظيم، وهم يتذكرون تلك الأيام العظيمة، واللحظات الروحانية، التي قضوها في جنبات هذه المشاعر المقدسة.
وبدهي أن أشير إلى أنه لم تكن مناسك هذه الشعيرة العظيمة لتتم بهذه السهولة والانسيابية لهذه الأعداد الضخمة من ضيوف الرحمن إلا بفضل الله عز وجل أولا، ثم بفضل الجهود الجبارة التي تبذلها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله وشفاه وأعاده إلى وطنه سالما معافى، ولن يتسع المقام لعرض شيء من هذه الجهود، ويكفي أن يشهد المرء هذه الفريضة العظيمة ليدرك أروع سبل التيسير، وأجمل صور التسهيل، التي تقدمها حكومتنا الرشيدة لإتمام هذا النسك على أكمل وجه، وأتم صورة.