هذا اليوم لي يا نوارة، اشتقتُ أتحدث إليكِ..
فتلك اللحظات التي تمرق وأنتِ هناك في البعيد بين يدي ربكِ الرحيم.., أتخيلكِ منعَّمة بما ترينه في مقعد الجنانِ.., لك ظني العريض به تعالى، إذ كلما عنت لي قضايا التربية، والتنشئة، ومرت أمامي صور مكبرة لواقع الحياة، أتذكر أمومتكِ، جناحيك الوفيرين بالدفء والحنان والتجاوز، ولسانكِ الذي لم يكن يصمتُ وهو رفيق مسامعنا في إيابنا وذهابنا، كأنه الكف التي تربت على أكتافنا تنبهنا أن هنا موقف صمت، وهناك مدار حديث، وهنا ما لابد من المبادرة، وهناك علينا أن نتأخر قليلا، فثمة كبير يوقر، وثمة محتاج يُرحم، وثمة واجب يؤدى، حتى إذا ما أسدل الليل ستره أخذتِ مكان الظل عند نور ما تتلينه علينا من الآيات ولا تمررينها دون تمثيل، ولا تتجاوزين عن حكمتها، أو تنبيهها أو ترغيبها، كانوا يقولون لكِ: رويدك فقد أثقلتي على صغاركِ، غير أنكِ كنتِ تقولين لهم بأن المرء بأصغريه قلبه ولسانه، ولم تكني تُشكين لحظة في قلوبهم ولا ألسنتهم صغاركِ، كما لم تهملي لحظة أدوارهم،...
يا نوَّارة ونحن في مقاعدكِ لم نقو على حمل المسؤولية التي حملتِ، ولم نرقَ إلى الدور الذي بلغتِ، تهافتت علينا النظريات من كل صوب، وتداخلت لدينا المفاهيم عل اختلاف مصادرها، وضاقت الآذان بالأصواتِ، وأرهقت الكتوف بالأحمال، وتعثرت الأقدام لتشعب الطرق والمفازات, وبات نهجكِ الأمثل، حكمتك الأرجح، ودوركِ الأنجح.., ولا يزالون يطمسون براءة الفطرة في منهلكِ، ولا يزالون يحملون معاولهم دون بنائكِ، أنتِ لستِ التي لي وحدي، فقد كنتِ نموذجا في كل الأمهات في مسار جيلكِ ممن نشَّأت أبناءها على قيمٍ، بدأت تنقضُّ جدرانُها، وتنهل من ينابيع أوشكت أن تجف روافدها..
يا نوارة، أنتِ بين يدي ربكِ تنامين قريرة العين فقد أوفيتِ والله يشهد، أنتِ كل نساء مؤمنات صالحات عرفن الله فزرعنه في صدور أبنائهن، وأنتِ قرة عين لم تتجاوز صدق المنهل، ولم تفرط في قوام دعائمه، كنتِ بين جد وترويح، بين مثوبة وعقوبة، بين رضاء وموقف، عند الصواب تثيبين، وعند الخطأ توجهين، وعند التجاوز لا تتساهلين، وعند الإصرار تضربين الأمثلة ولا تلين لك قناة،.. وجهكِ كان مرآة لداخلك، وعيناك كانتا البوصلة والعصا، بمثل ما كانتا نجع الرضاء والبهجة، لسانكِ لم يكن سيفا مسلطا على الرقاب، بل كان موجها يرسم الطريق ويثني عن الآخر,,
يدك لم تحمل السيف ولم تخضع الجبهة، بل كانتا الجذع الذي يحملنا للأعلى لنرى الدنيا بمنظار قناعاتنا التي كونتها فينا روافدك ِ.., كنتُ أجدكِ في بيتي فأجد نموذجكِ في بيوت زميلاتي، و جيراني، ومدرساتي، أنتِ أمي وأمها وأمهاتهن، أنتِ امرأة الأجيال التي على عاتقها حملت الجسر بين البر والبحر، بين عمق التربة وسطح الحديقة، بين البذرة والشجرة..,...
بعض منكِ منهن لا تزال تتوكأ حلم اللقيا لوجه الكريم, الذي أفرحها فرأت فلذاتها في مواكب الكفاح والعطاء، فأطرقُ عليهن صديقاتي لأسمع لكِ في شخوص أمهاتهن اللاتي هن أنتِ، لأستروح نعمة وجودهن، ودفء ظلهن حفظهن الله، وأدعو لكِ فقد ذهبتِ ومعكِ طُويت صحائف الكثير مما ينبغي أن يفرد تحت أقدام هذا الجيل، لتنبت في أقدامهم أشجار الخير والقيم والنور والطموح والمبادئ وسلامة المنطلق وثبات المنتهى...
رحمكِ الله وحفظ أمثالكِ من الطيبات الحكيمات...
نوارة: لينعِّمكِ الله تعالى، وليجعلكِ عند ظني به في زمرة الأنبياء والشهداء والصالحين..فأنتِ لا تتكررين.