«أحيانًا» نبدو لأبنائنا قادمين من حُقب ما قبل التأريخ؛ فالحكاياتُ لا تتشابه، والمتعُ لا تتوازى، وحين نسترجع ذكرياتنا أمامهم يتثاءبون ثم يستأذنون أو ينسحبون بهدوء متعللين بأمر أُنسوه؛ فقد تذكّروا فجأةً كل واجباتهم والتزاماتهم، ونبتسم في سرنا؛ فسيواجهون غدًا ما نواجهه معهم اليوم. ومنذ البدء كان القديمُ والحديث في خلافٍ يصل حدَّ الصِراع، وكنَّا نرى زمننا غير ما نرى زمن آبائنا، وكذا رأى أبناؤنا ما لم نرَ؛ فقد سامرنا القمر وعددنا النجوم وافترشنا الأرض وذاكرنا على ضوء سراج واسترخينا في فيء كرمة.
وفي حكاياتنا القريبة ما هو - للجيل الحالي - أقربُ للأساطير؛ فلن يصدِّقوا أننا كنا نختبر مرةً واحدة في نهاية العام دون أعمال سنة أو تقويم مستمر، وأن أسئلة الصف السادس مركزية من الرياض، وكذا المرحلتان المتوسطة والثانوية في المعاهد العلمية، والجامعة أقسى، لكننا حين تخرجنا كانت الوظائفُ تنتظرنا، ويذكر صاحبكم أن خياراته - دون وساطات - كانت الإعادةَ في الجامعة وفي معهد الإدارة ووظيفةً إداريةً حيث شاء، ولو فكَّر بالقطاع الأهلي حينها، وبخاصة البنوك، لوجد فيها مجالات أُخر.
مررنا بزمن البطالة المُقنَّعة، ثم صرنا إلى البطالة العلنية، وهي حقيقية في أمر الفتيات بشكلٍ يحيلُها إلى ظاهرة خطرة تحتاج إلى علاج بعيدًا عن مزايدات الأدلجة حول عمل «الكاشيرات» وما جرى مجراها؛ فقد باتت المرأة كُرةً تتقاذفها الحروفُ والألسنة ليدَّعي المنغلقُ والمندلق أنهما وصيان عليها يريدانها طوع توجهاتهم.
لم تعد بطالة المرأة بحاجة لشعار يصعد بها وثانٍ يُهون من شأنها، ومن يقترب من دوائر الناس نائيًا عن حالته المادية والعائلية الخاصة - فإن الوضع يستدعي التفاتة عاجلة من ذوي القرار لتشغيل المرأة في كل ما تستطيع عمله، وتجارب التعليم والصحة والإعلام المسموع والمرئي - على مدى نصف قرن - تثبتُ ألا خوف من بيئة العمل المنضبطة، والمجالات الثلاثة - هي ثلاث مئة لو شئنا الكفاف والعفاف.
أما الشباب؛ فتتمطى شفاه أبنائنا حين نذكر لهم زمنًا شهدناه لم يكن لدينا في مدينتنا عامل غير مواطن، حتى القائمون على نظافة الشوارع والمجاري ورعاية المزارع وفنيات الماء والكهرباء والبيع ورعي الغنم وقيادة وصيانة السيارات والتمريض وسواها، ويستعيد مشهدًا متخيلاً لأستاذه محمد الصالح العمير - عليه رحمة الله - حين افترض أن الأجانب اختفوا من حياتنا فجأة فأي واقع سنعيشه؛ تأملوا قليلاً؛ فكل الخدمات مقفلة، والشوارع مقفرة، حتى وقود السيارات يملؤه لنا أجنبي، وبالتأكيد سنموت همًا وغمًا وربما سغبًا ونصبًا.
واجه أكثرُنا سؤال أطفاله عند زيارة الغرب الأوربي والأميركي: أين شغالاتهم؟ ورأوا شبابًا وفتيات في أجمل الهيئات وهم ينظفون طاولات المطاعم وممرات الأسواق ودورات مياهها، ويستعيد تجربة صديق غني كان يوظف أولاده في الإجازات للتحميل والتنزيل بل وتفقّد دورات المياه بالممسحة، ولم يضِرْهم.
لسنا من العصر الحجري؛ فلن ينسى والدته - رعاها الله - وهي تعطيه إبريق الشاي والخبز ليقدِّمه لعمال النظافة «المواطنين أصلاً وفصلاً» حين يقتعدون الأرض في جلسة إفطارٍ مقنّنة لكي يعودوا لأولادهم في المساء بما يسد رمقَهم، وقريبًا تناقل الناس خبرًا من صحيفة حضارة السودان - 1353هـ - 1935م - وهي تعلن أسماء المتبرعين السودانيين للسعوديين من فقراء مكة والمدينة، ومن يدري ما الذي يخبئه الزمن القادم؛ فمن سره زمن ساءته أزمنة.
الحياة أدوار ودوائر.