في زمن الصراع بين المعسكرين: «الاشتراكي».. بزعامة الاتحاد السوفييتي، و»الرأسمالي».. بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، كانت مكنة الإعلام الأمريكي الضخمة تعمل ليل نهار على تلميع معسكرها، وتجميله..
بمناسبة وبدون مناسبة.. وهي تجاهد في تأكيده وترويجه بين دول «العالم»، أو إعادة تقديمه في أبهى وأجمل صورة.. فتسميه ب «العالم الحر» مرة.. أو معسكر «الديمقراطيات الغربية» في أخرى، المدافع دائماً وأبداً عن «الحريات» وحقوق الإنسان وكرامة الشعوب.. أمام وحشية «المعسكر الاشتراكي» وديكتاتوريته وقمعه وسجونه وستاره الحديدي الرهيب، الذي يموت الأحرار خلفه.. دون أن يعرف أحد من الناس شيئاً عن أسباب موتهم أو اختفائهم المفاجئ، كما كانت تردد مكنة الإعلام الأمريكية المضادة للمعسكر الاشتراكي آنذاك.. صباح مساء، وأنه ليس أمام دول العالم وشعوبه في المقابل إلا الانضواء تحت راية (العالم الحر) بقيادة الولايات المتحدة.. التي تحملت وتتحمل وحدها مسؤوليات الدفاع عن بقية الشعوب الحرة فوق أركان المعمورة، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بقدراتها العسكرية ومظلتها النووية.. أمام غدر المعسكر الاشتراكي ونواياه التدميرية - المختبئة خلف بريق شعاراته - في الاستيلاء على العالم أو وضعه تحت قدميه..!!
في ذلك الزمن الممتد من نهايات الحرب العالمية الثانية.. وحتى إطلالة الألفية الثالثة، والذي توافق السياسيون على تسمية مرحلته الطويلة هذه التي تتجاوز النصف قرن.. ب «مرحلة الحرب الباردة» أو «زمن الحرب الباردة» بين «المعسكرين».. كان للولايات المتحدة الأمريكية موقفان سياسيان إيجابيان تجاه الصراع العربي الإسرائيلي - أو الفلسطيني الإسرائيلي.. كما انتهى إليه واقع حاله اليوم - بديا وسط الانحياز الأمريكي الجائر لإسرائيل.. كما لو أنهما مدروسان بمعيار المصالح الأمريكية.. بدقة وعناية، هما: عدم الاعتراف بشرعية المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والآخر.. هو أن «لا» لانتقال السفارة الأمريكية في إسرائيل من «تل أبيب» إلى «القدس»..!!
* * *
وقد أثمر هذان الموقفان الأمريكيان طوال تلك السنوات.. عن ردود أفعال إيجابية بين «عرب الرأسمالية» أو «العرب الأمريكان» على وجه الخصوص، الذين أسلموا قيادهم ل «زعامة الولايات المتحدة الأمريكية».. لتسير بهم إلى حيث تريد، بل وقوَّى من جبهتهم في مواجهة «عرب الاشتراكية» أو «العرب السوفييت».. الذين كانت لهم الغلبة سياسياً طوال الستينات وحتى أوائل ثمانينات القرن الماضي، وإلى الحد الذي جعل عرب الرأسمالية.. يتباهون بمواقفهم الأمريكية، ويعتبرونها ركيزة «العقلانية» والاعتدال وما عداها «شعارات» وهرطقة.. بل ويستخفون بكل النقد الموضوعي أو السخريات الكثيرة التي كانت تكال لهم أو للولايات المتحدة الأمريكية نفسها.. عبر المقالات والقصائد العامية «الغليظة»، والرسوم الكاريكاتورية الحادة.. التي كان في مقدمتها وعلى نحو متميز فريد.. أعمال رسام الكاريكاتير العربي الشهير: (ناجي العلي).. الذي سمى الموقّعين على اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979م في واحد من أصدق، وأعنف رسومه الكاريكاتورية، وأشهرها في صحيفة «السفير» اللبنانية.. ب «أولاد الكامب»!!
* * *
على أن الأهم من رسوم «ناجي العلي» الموجعة والمعبرة أصدق تعبير.. هو ما حدث ل «الموقفين» الأمريكيين المتميزين الخاصين ب «عدم شرعية المستوطنات» وعدم انتقال السفارة الأمريكية لدى إسرائيل إلى «القدس»، واللذين سارت عليهما سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الرئيس «جون كينيدي» إلى الرئيس «بيل كلينتون».. في موقفهم من الصراع العربي الإسرائيلي أو الفلسطيني الإسرائيلي في هاتين النقطتين.. على وجه التحديد: «الاستيطان» و»القدس».. باستثناء إدارة «ليندون جونسون»، التي شغلها القضاء على القومية العربية ورائدها آنذاك «عبد الناصر».. فكان أن دعمت العدوان الإسرائيلي في يونيه عام 1967م بكل ما تملك، وبكل ما يحتاجه العدوان.. سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، حتى تمكنت إسرائيل من الاستيلاء على «كامل» الأراضي الفلسطينية وإلى جانبها سيناء والجولان والجنوب اللبناني.. فلم يشغل تلك الإدارة أمر «الاستيطان» في الأراضي الفلسطينية أو نقل سفارتها إلى «القدس» باعتباره سيكون من تحصيل الحاصل بعد الهزيمة العربية النكراء في عام 67م، التي لن تقوم بعدها ل «العرب» قائمة.. كما توقع الرئيس جونسون (!!)، إلا أن تلك السياسة الأمريكية الرسمية من «الاستيطان» الإسرائيلي وعدم نقل السفارة الأمريكية إلى «القدس».. عادت إلى أجندة الخارجية الأمريكية مجدداً مع رئاسة الرئيس «جيمي كارتر» ووزير خارجيته النبيل «سايروس فانس»، وظلت باقية.. وإلى أن قدِم وغادر الرئيس «بيل كلينتون» البيت الأبيض بعد دورته الثانية دون أن يلقى حله بالاقتسام الديني ل «القدس» بين الأديان الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) قبولاً.. لا من المسيحيين، ولا من المسلمين.. لتختفي بعدها تلك السياسة الرسمية الأمريكية الإيجابية (الوحيدة)!! من أجندة الخارجية الأمريكية، ومن أجندة البيت الأبيض نفسه على يد «جورج بوش» الابن، وتحل محلها سياسة «شرعنة الاحتلال» لغياب شريك السلام الفلسطيني المقابل.. لرجل السلام الإسرائيلي «شارون»!! و»شرعنة بناء الجدار» على ما شاء الإسرائيليون من الأراضي الفلسطينية.. رغم قرار محكمة العدل الدولية ب «بطلانه» ووجوب إزالته، وتعويض المتضررين الفلسطينيين من بنائه فوق أراضيهم الزراعية ووسط أحيائهم وفي باحات منازلهم..!! وشرعنة الحرب على «لبنان».. فالحرب على «غزة».. ف «شرعنة» حصارها.. لأنه ينضوي تحت بند حق الدفاع الإسرائيلي المشروع عن النفس من «الإرهابيين» الذين يريدون قتل الشيوخ والنساء والأطفال الإسرائيليين بصواريخ (القسام) المحلية الصنع..!!
* * *
وقد توقع العالم مع وصول رئيس حملة (التغيير) الانتخابية الشاب الأسمر الواعد «باراك أوباما» إلى البيت الأبيض، وبعد خطابه الرنان والمختلف.. في جوهره ولغته بجامعة القاهرة في يونيه من عام 2009م، بأنه وقد جمع طرفي الصراع الفلسطيني والإسرائيلي.. في «مفاوضات غير مباشرة»، ف «مفاوضات مباشرة» غير متكافئة.. سيعمد حتماً إلى العودة إلى تلك السياسة المتوازنة في شأن «الاستيطان» و»القدس» التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية السابقة، فاكتسبت بها شرعية سياسية غير شرعيتها القانونية، ولكنه خيب أمل الجميع بعدم استطاعته أو غياب قدرته على فعل ما كان يفعله أسلافه من الرؤساء السابقين، وأقصى ما استطاعه في المرة الأولى - وعند بدء المفاوضات المباشرة - الحصول على «تجميد»!! الاستيطان لأربعة أشهر.. ثم عندما انتهت لم يستطع حتى تجديدها.. ودخل مع «نتنياهو» في مساومات حول «المقابل» الذي سيتقاضاه أمام موافقته المشروطة باستبعاد «القدس» من التعهد الإسرائيلي بإيقاف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية.. لتخرج المفاوضات المباشرة برمتها آنذاك من دائرة الجد والحوار السياسي الموضوعي إلى دائرة الهزل والعبث..!! فتصبح لوحة «ناجي العلي» الكاريكاتورية الأخرى التي رسمها عن «الطغيان».. وقد قرأه إسرائيلياً في صورة «شعب الله المختار» وقرأه أمريكياً في صورة «شعب الله المحتال»، جديرة بإعادة النظر إليها وتأملها. و(للإنصاف!!) كان قد مضى على وفاة «المعسكر الاشتراكي» وخروجه من لعبة «الصراع» الدولي على العالم ثمانية عشر عاماً.. عندما كان الرئيس الجديد أوباما يلقي خطابه (الرنان) في جامعة القاهرة..!
* * *
إن الاستيطان الإسرائيلي المتوحش في «القدس» الغربية العربية، وبقية مدن الضفة الغربية خصوصاً.. والذي رفضته الشعوب العربية، والتزمت به السلطة الفلسطينية ك «شرط» لعودتها للمفاوضات.. لا يرفعه ولا يوقفه العمل الديبلوماسي المتعثر وحده.. ولكنه بحاجة إلى دعم اقتصادي مالي ضخم، تقوم على جمعه بحماس وإخلاص وأمانة إحدى مؤسسات المجتمع المدني في إحدى الدول العربية، يسهم فيه أبناء الأمة العربية.. لتحويله إلى «القدس» و»بيت لحم» و»جنين» و»نابلس» وغيرها من المدن الفلسطينية الواقعة رقابها تحت سيف الاستيطان.. حتى يتمكن أهلها من الصمود والحفاظ على مساكنهم ومساجدهم وكنائسهم ومدارسهم وبقية ممتلكاتهم، ف «الاستيطان الإسرائيلي» لا يعمل فقط ب «السلاح» والبلدوزر والعربات المصفحة فقط.. ولكنه يعمل بالمال اليهودي العالمي، واليهودي الأمريكي الذي يسيل له لعاب الفلسطينيين المحرومين من كل شيء، والمطالبين في ذات الوقت بالصمود والتشبث بأراضيهم حتى الموت..!! فهل.. ما يزال في هذه الأمة قلوب تنبض وعقول تفكر..؟ أم أننا ننفخ في قرب مقطوعة.. ونصيح في آذان صماء لا تسمع..؟!