كلما تأخر صدور منظومة الرهن العقاري في المملكة ارتفعت الأصوات التي تسعى إلى كسب موقف عبر التنقيب عن سلبياته ومضاره المحتملة على الاقتصاد، تماماً كما حدث في الماضي القريب بالنسبة لمشاريع التخصيص. وهذه الأصوات المُثبطة تجهل أو تتجاهل أن للرهن العقاري روحاً إنسانية وفلسفة ذات بُعد اجتماعي أسمى من بُعده الاقتصادي المُجرد. ولإلقاء المزيد من الضوء على هذا الجانب لنغوص قليلاً في التاريخ. فقبل الكساد العظيم الذي ضرب الولايات المتحدة والعالم في (1929- 1933) كانت البنوك التي تُمول العقار مُقابل رهنه تشترط الحصول على ما لا يقل عن نصف ثمنه مقدماً والباقي يُقسط على خمس سنوات كحد أقصى، أي أنه يشبه المرحلة الحالية في المملكة بالنسبة للرهون العقارية غير المدعومة بدخل ثابت. وأثناء الكساد العظيم تجمد النشاط الاقتصادي تماماً وامتنعت البنوك عن الإقراض. وفي عام 1932 انتُخب روزفلت رئيساً للولايات المتحدة، فطبق مشروعه التحفيزي (العهد الجديد) المتكون من عشرات المشاريع والقوانين الهادفة إلى تحريك الاقتصاد عبر تعزيز الائتمان وتشجيع الاستهلاك والإنفاق وحماية ودعم الأطراف الضعيفة. ومن أشهر هذه القوانين تلك المُنظمة للرهن العقاري التي أوجدت ثورة في مجال تيسير تملك المواطن محدود الدخل لمسكنه. ففي عام 1934 تم تأسيس الإدارة الاتحادية للمنازل FHA لتأمين ممولي العقار من مخاطر العجز عن الدفع مما خفض مخاطر التمويل العقاري بصورة جوهرية. وقد طورت هذه الإدارة منتج تمويل الثلاثين سنة للمساكن بفائدة منخفضة وثابتة. ثم أنشأت الحكومة المنظمة الوطنية الاتحادية للرهن العقاري (فاني ماي) FANNIE MAE المتخصصة في شراء ديون إدارة FHA وتوريقها وبيعها في السوق مما وفر مصدراً غزيراً للتمويل ووحد المعايير والشروط وأوجد سوقاً أكثر كفاءة وعدالة للرهن العقاري. وهدفها، هي وشقيقتها (فريدي ماك)، تعزيز نسبة ملكية المنازل للمواطنين وخاصة الأسر محدودة الدخل وفي المناطق منخفضة النمو. ووسيلتها زيادة مدة القرض (حتى 30 سنة) وتخفيض المبلغ المدفوع مقدماً وتخفيض وتثبيت الفائدة وتوفير مصدر تمويل مستمر بغض النظر عن الظروف الاقتصادية. وقد حقق هذا المفهوم للرهن العقاري نجاحاً كبيراً في مجال زيادة نسبة المواطنين المالكين لمساكنهم لاسيما محدودي الدخل، وأصبح الآن من ضرورات الدولة الحديثة ليس بسبب أهميته الاقتصادية وإنما لبُعده الإنساني والاجتماعي لأنه يُعد القناة الأكثر كفاءة وفعالية لتوفير الدعم الحكومي لمحدودي الدخل كي يتمكنوا من تملك مساكنهم. هذا البُعد الاجتماعي والإنساني هو الروح الخفية لمنظومة الرهن العقاري في المملكة، المُتوقع صدورها قريباً.