تسريبات ويكي ليكس لم تأت بجديد، لأنها لم تتطرّق إلى جرائم الأهداف، وانتهازية التحالفات، ضد مصالح الشعوب المصهورة بالرصاص المصبوب، والمقصوفة بالفوسفور الأبيض والمهمّشة معنوياً وحضارياً، والمغلوبة على كلِّ أمورها. ويكي ليكس حرثت فقط في قذارات الوسائل وفحش التعليقات والمفردات التي يستعملها المتحالفون في طرف ضد المتحالفين في الطرف الآخر، وأحياناً ضد بعضهم داخل التحالف نفسه. المسألة كلها قذارات سياسية وانتهازيات تحالفية مصلحية، والأطراف المتحالفون فيها يقولون لبعضهم وجهاً لوجه ما هو أفحش وأقذر مما كشفته تسريبات ويكي ليكس.
في أواخر أيام الرئيس الإندونيسي الراحل أحمد سوكارنو، حصل بينه وبين السفير الأمريكي في جاكرتا مشادة كلامية أمام الدبلوماسيين الأجانب في حفل عام (أظنه كان العيد الوطني لإندونيسيا). انتهت المشادة الكلامية آنذاك بين سيادة الرئيس وسعادة السفير بقول سعادة السفير لسيادة الرئيس: اسمع يا سيد سوكارنو ولا تتبجح لأنك خلال أيام قليلة لن تكون رئيساً لإندونيسيا. وبالفعل بعد أيام قليلة أطاح بسوكارنو أكبر جنرالاته سوهارتو. كان سوكارنو يعلم أنّ سوهارتو غير مخلص له، ولكنه لم يتخيّل أنّ القذارة السياسة سوف تصل لدرجة تنفيذه ما تأمره به الولايات المتحدة الأمريكية. كذب سوكارنو آنذاك على نفسه في توقعاته عن سوهارتو، وكذب سوهارتو في تجاوزه قسم الولاء لبلده ورئيسه، ولكن صدقت وقاحة سعادة السفير. كان ما تفوّه به السفير علناً مجرّد جزء صغير من القذارة المتراكمة في الطوابق السياسية السفلية.
أيام الحرب اليوغسلافية العنصرية نقلت وسائل الإعلام حديثاً جرى بين ريتشارد هولبروك المندوب الأمريكي في يوغوسلافيا، والرئيس الصربي آنذاك سلوبودان ميلوسوفيتش (مات لاحقاً في لاهاي). ما زلت أذكر نقل وسائل الإعلام قول هولبروك للرئيس الصربي عندما رفض طلباً له حول عدم التعرض لمنطقة الجبل الأسود: أحذّرك لأننا إذا تجرّأت على ذلك سوف نفعل بك. كلكم تعرفون أنّ هذه الكلمة القبيحة دارجة جداً على المستوى الشوارعي الشعبي في أمريكا، ويكثر استعمالها في الحانات والبارات ومشاجرات الشوارع الخلفية. المندوب الأمريكي استعمل تلك الكلمة القذرة لتهديد رئيس دولة لأنه وصل إلى نقطة الحقيقة وأخرج شيئاً من مكنوناته السياسية القذرة. هولبروك هذا نفسه كان ذا صبر طويل على قتل واغتصاب مسلمي البوسنة والهرسك، ولم يكن بسبب ذلك ليفعل بالرئيس اليوغوسلافي ولا حتى يطبطب على مؤخّرته، لكنه كان مستعداً لفعل ذلك بسبب مقاطعة الجبل الأسود التي أسس فيها الأمريكيون قاعدة عسكية ضخمة. بالمناسبة أذكَِّركم بأنّ ريتشارد هولبروك هذا هو المشرف الرئيسي حالياً على المحادثات بين أفغانستان وأمريكا وباكستان.
إذاً .. ترى من الذي سهّل الأمور لجوليان آسانج كواجهة إنسانية ولمجموعته المتعاطفة معه والبالغة ثمانمئة شخص خلف الكواليس، ومن الذي فتح لهم القنوات ومن الذي اختار المواد المسرّبة وصنفها ومن الذي اختار التوقيت المناسب لذلك ؟.
هل نشطح كثيراً في الخيال لو افترضنا أنّ الطرف المسهّل لذلك لابد أن يكون له هذه المواصفات:
- له نفوذ قوي داخل البنية التحتية في الخارجية الأمريكية (أي لوبي) يمكنه من الدخول والخروج إلى كل القنوات والدهاليز والمواقع.
- له واقع محرج ومخز بمقاييس الإجرام ضد البشرية وواقع داخلي سيئ جداً بمقاييس الرشاوي والاغتصاب وانخفاض الروح المعنوية القتالية. تذكّروا فقط ذلك الكيان الذي يحاكم نصف قياداته السياسية بتهم أخلاقية في الداخل، ومهدّد آخرون منهم بعد توصيات لجنة القاضي جولد ستون بالمساءلة القضائية في بعض الدول في حالة تواجدهم على أراضيها لارتكابهم جرائم ضد البشرية.
- له تحالف عضوي عريق مع قوى عنصرية تقليدية في الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة إفشال أول إدارة أمريكية يترأسها شخص أسود، وعلى ألاّ يتكرر ذلك بكل الوسائل. تذكّروا فقط مظاهرتهم الكبيرة أمام نصب أبرهام لينكولن محرر العبيد قبل أسابيع في ذكرى اليوم الذي ألقى فيه مارتن لوثر كينج خطابه الشهير أمام حركة الحقوق المدنية.
- له بكل بساطة مصلحة ظرفية واضحة في خلط كل الأوراق وإطلاق الغازات المسيلة للدموع وغير الدموع في الساحات السياسية.
قد يكون أحد الأهداف من خلط الأوراق بهذه الطريقة استعراض العضلات والقول بأنه مافيش حد أحسن أخلاقياً من حد، وأنكم كلكم قذرون مثلنا، إذاً دعوا اللعبة تستمر وإلاّ فضحناكم جميعاً.
إنّ اللعبة سوف تستمر، وتسريبات ويكي ليكس وجوليان آسانج ومؤيديه سوف يختفون سريعاً من الواجهات الإعلامية حالما تزكم القاذورات أنوف الجميع. لكن فتشوا في التسريبات جيداً وانظروا هل تتعرّض للصهيونية وتحالفاتها الكنسية الأمريكية بأي كلام يحمل شيئاً من قلّة الأدب؟.