وتقصي الفشل الذريع في إدارة الصراع يذكي في النفس حُبَّ الاستطلاع وتعقب تاريخ المذاهب؛ ولما تزل مشاهدنا تعيش احتدام المشاعر حول مجمل التجاوزات الفكرية والسياسية والأدبية فضلاً عن الدينية التي تمخضت عن التطرف والصدام بدل الصراع والحوار.

ولربما تكون «الرواية» العربية يراهنها بؤرة التوتر من خلال التخليات في أبعادها الثلاثة: اللغوي، والدلالي، والفني. والراصد للحراك قد يتنبأ بصراع لا يحكمه نقل ولا عقل ولا ذوق سليم. وستظل المشاهد تخرج من دوامة لتدخل في أخرى، وليست الإشكالية في تنامي الصراع وتشتت الآراء واختلاف وجهات النظر، ولكنها في شيئين:-

- الفشل في إدارة الصراع.

- الدخول فيه دون تصوُّر سليم للآخر وللقضايا وللذوات.

والأصوليون يقولون: «الحُكْم على الشيء فرع من تصوره». وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يسأل عن الشر مخافة أن يقع فيه، وكم من أحكام جائرة مرتجلة نُطلقها فنصيب بها أبرياء، وما ذلك إلا ناتج العجلة والارتجال والتعميم وعدم التحري والتثبُّت.

وكل الأزمات لا يزداد ضرامها إلا إذا فشل ذووها في إدارتها، وكل الخلافات لا تتعمق ولا تتجذر ولا تخرج عن مدرجها السليم إلا إذا تقحمها الغوغائيون ودرج فيها الفضوليون الفارغون من الهمّ، الذين لا يفرقون في جدلهم بين خلافٍ مع أمثالهم، وفي قضايا جانبية أو في وقوعات عارضة لا تقدّم ولا تؤخر، وسيان فيها أن تصيب المحز أو تطيش سهامها، وخلافٍ مع أهل الذكر وأرباب الحل والعقد ومن بيدهم مصائر الأمة، وقد نسمع ونرى غوغائياً أو فضولياً ينازع بلغة شوارعية وعلو كالدخان عالِماً متمكناً من فنه متضلعاً في تخصصه وقافاً عند حدود ما أنزل الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وليس مهماً أن تكون القضية نضجت أو لم تنضج بعد، أو يكون العالِم المتخصص قد أخطأ الطريق، إن المهم البراعة في إدارة الحوار، والتأدب في مراجعة المسائل المتعلقة بالقضية، التي لم تكتمل بعد، ولقد قلت ولما أزل أقول:- لا أحد فوق المراجعة والمساءلة، ولا عصمة ولا قدسية لأحد، وكلٌ يؤخذ من كلامه ويُردّ إلا مَنْ لا ينطق عن الهوى الذي ترك أُمَّته على المحجة البيضاء، وحين يفقد المختلفون أو بعضهم أدبيات الحوار أو حين لا يكونون متكافئين في المكانة والتخصص، أو حين لا تتضح لبعضهم الرؤية يستفحل فيما بينهم الشقاق، وقد يضطرون أو يضطر بعضهم إلى استدبار القضايا والإيغال في النَّيل الشخصي، ولقد تكون مشروعية الملتزمين في القول: «إنا وجدنا آباءنا على أُمّة» فالاقتداء التقليدي يُشكّل عمى بَصر وبصيرة، وهو السائد في كثير من المشاهد، ودون هذا مَنْ يبني أمجاده على التغريد خارج السرب، وتعمد النبش في المسكوت عنه، وشبق الأضواء يستهوي الفارغين كما يستهوي اللهبُ الفراش، والمتابع لفيوض المشاهد يروعه تكاثر هذا النوع، ومن نكد الدنيا على العقلاء أن هذا الصنف يجد مَنْ ينفخ فيهم ويجر أقدامهم إلى المغامرات الطائشة، وزيارة دور النشر النهمة يجد فيها زوايا مليئة بهذا النوع من كتب المخازي في السياسة والفكر وسائر المعارف لمؤلفين مغمورين لا يفكرون بسمعة ولا يخشون من عقوبة؛ إذ كل همهم رواج أسمائهم ونفاد كتبهم، وملء جيوبهم، وحُب الاستطلاع يجر أقداماً لا تخوض مع الخائضين للشراء، والشراء دعمٌ وإغراءٌ لمثل هذه الحثالات، فالكاتب المتاجر بسمعته لا يعنيه من أمر ما يكتب إلا الكسب. والفشل في إدارة الصراع يكون مع الأناسي ومع القضايا، فلقد يفشل الكاتب أمام قضية من القضايا؛ لأنه لم يستوعبها، وقد يحييها ويثريها لمصلحته إذ لم تكن من أولويات القضايا، ولقد أشرنا مراراً إلى أهمية فقه الواقع وفقه الأولويات، والذين يتندرون من مسلَّمات الأمس يجهلون فقه الواقع، فقد تكون بعض القضايا من أولويات الأمس وثانويات الغد، وجهل التراتب والأولويات يحول دون سرعة التكيف مع التقلبات؛ فلقد يُعاب على عالِم إيغاله في لغة الجهاد وإعداد القوة ثم لا ينظر إلى الظروف التي تمرّ بها الأمة؛ فحالة جهاد الدفع تتطلب خطاباً تحريضياً تعبوياً، وحالة السِّلم والتعايش تتطلب خطاباً تصالحياً، ومَنْ استبعد السياق والأنساق في تقويمه للخطابات وقع في فشل إدارة الصراع.

وتظل الإشكالية متعلقة بالفشل الذريع في إدارة الصراع؛ فالاختلاف قائم وأزليّ ولا مناص منه، وقد تتسع المشاهد للمذاهب والآراء والملل والنحل، وقد يكون لبعضها مناطات نصية، ولبعضها الآخر مناطات تأويلية، وقد يكون في الاختلاف إثراء وسعة وتحفيز لتعزيز المواقف بمزيد من التحصيل المعرفي والتصحيح المنهجي، ونحن حين نطالب ونُلحّ في المطالبة بالمحافظة على وحدة الأمة فكرياً لا نريد واحدية الرأي ولا واحدية المذهب، ولا نفكر في مصادرة الحقوق المعرفية، والأمة الإسلامية وسعت المذاهب الفقهية، واتسع فكرها للجدل الفكري، وأصبحت مدارسها منارة عالمية، فالفقهاء والمحدِّثون والنحاة والصرفيون والأدباء والمؤرخون والمفسرون والفلاسفة لكل طائفة منهم مناهجه وقواعده وأصوله وآراؤه، وبذلك خلف لنا السلف ثروة علمية لا تنازع، وإن وقعت بعض المذاهب في مستنقع الفشل في إدارة الصراع ولكنه فشل مسيطَرٌ عليه.

وأخطر شيء مَنْ يتخذ إلهه هواه ثم لا يتيح الفرصة لمزيد من الإنضاج للأفكار، فالحسم بالقوة يرجئ المشاكل ولكنه لا يحسمها، وليس من مصلحة الأمة أن تَرِمَّ جروحها على فساد؛ فذلك ينذر بالخطر؛ فقد تمتلك القوة في بعض فتراتها على تحمُّل المواقف غير السوية، والتفاني بين المتنازعين لا يقتصر على الأبدان بحيث يكون تفاديه الحل المرتقب، إنه يمتد إلى الجهود والأموال والأوقات، وفيه تفويت للفرص وتوهين للقوى، ومن نتائج التنازع - وهو مؤشر الفشل في إدارة الصراع - الفشل وذهاب الريح، وهو ما أشار إليه الذكر الحكيم.

والأمم الناصحة لنفسها تعض على الوحدة الفكرية بالنواجذ، وليس شرط الوحدة الفكرية أن نطرح الاختلاف في وجهات النظر، ولا أن يُسلّم الخلف للسلف دون وعي، ولا أن نتهيب استشراف المستقبل وحوار الآخر وتبادل المصالح معه والاستفادة مما عنده من الحق، ولكن شرطها ألا نتبنى أفكار الآخر ومناهجه ومسميات فكره، والاشتغال بالقواسم المشتركة لا يعني الذوبان ولا الخلوص من محققات حضارة الانتماء، إن هناك مفهوماً للتجديد والتقليد، والخلطة والاعتزال لو عرفناها حق المعرفة لكنا الأكثر قدرة على إدارة الصراع بحِكْمة وتسديد.

ولعل من أبرز الإخفاقات في إدارة الصراع الخلط بين «المبادئ والتطبيقات» و»الظواهر والوقوعات» و»الأهواء والالتزامات» و»الخوض في عويص النوازل» دون تحرير للمسائل ولا تأصيل للمعارف، والتفلُّت على المرجعيات المؤسساتية بآراء فردية فجة، وقول المبتدئين للمتضلعين: «نحن رجال وأنتم رجال».

وعندئذ يتأوه المكتوون بلهيب الطيش مرددين:-

إذا وصف الطائي بالبخل مادرٌ

وعَيَّر قسًّا بالفهاهة باقلُ

وقال السهى للشمس: أنت خفيةٌ

وقال الدجى: يا صبح لونك حائلُ

وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً

وفاخرتِ الشهبَ الحصى والجنادلُ

فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمةٌ

ويا نفسُ جدي إن دهرك هازلُ