أهداني الزميل الكبير سناً ومقاماً خالد بن حمد المالك كتابه: للتاريخ ولغازي القصيبي، كتيب صغير الحجم كبير الموضوع والموضوعية.
جاء الكتاب بعد رحيل الراحل المواطن الضخم عقلاً وفكراً وتنويراً ووطنية وأمانة ومحبة بين الناس، غازي القصيبي غفر الله له. كان لمسة وفاء مكملة لقيام واجب أداء للقصيبي وهو حي، حين أصدر المالك من الجزيرة كتاب: الاستثناء، الذي فرح به أبا سهيل - رحمه الله - واعتبره أكثر أهمية له من شهادة نوبل، وهذا وأيم الله مما يحسد عليه أستاذنا أبا بشار خالد المالك. ففرح القصيبي بتكريم ثلة من أبناء وطنه وأمته له هو منزلة من منازل النفس بالرضى والاستبشار.
والكتاب جاء كما صدره أستاذ الأجيال السعودية د. عبد العزيز الخويطر بالقول: الوفاء صفة مضيئة، تأتي عادة من نفس رضية، وروح صافية. وأنا أشهد مع أستاذي الخويطر أن تلك سمات لأبي بشار خالد المالك في شأن تعامله مع رموز وطنية سبقوا رحيل القصيبي ولحقوا به.
لقد حوى كتاب المالك عن القصيبي كما، مقالاته الرثائية؛ مواقف نبل وشهامة من صحافي مهني محترف تعامل مع رجل مواطن تميز من بدايات عمله في الجامعة ليجلبه إلى ساحة الفكر والصحافة ليقود انطلاقة مهنية أكاديمية فكرية وطنية قومية تعالج بنمط نافل لما ساد وتوطد. وهنا قول المالك: «لم يكن ليكتب كل ما كتب عن غازي أو يقال عنه ما قيل، أو أن ينصب الاهتمام بكل كلمة كتبها، أو قول تفوّه به على هذا النحو الجميل، لو لم يكن الدكتور غازي القصيبي صاحب رأي وموقف وحكمة، وهو ما جعله شخصية مثيرة للجدل والاهتمام إن كان على مستوى العمل الوظيفي أو إن كان ذلك ناتجاً عن مفاجآته الأدبية والفكرية التي أغنى بها المكتبات وأثار من خلالها اهتمام المثقفين والباحثين والدارسين».
شدتني في كتاب المالك تلميحاته الذكية البعيدة عن سرد عاطفي أو تكرار لما اعتاده الراثون للفقيد، فقد حاول المالك الابتعاد عنها قدر الإمكان رغم وضوح بوح اللوعة وألم الفقد.
* لقد أشار المالك إلى قول للراحل القصيبي في أمسية كرم فيها أنه لا يرى نفسه مغروراً إذا كان معنى الغرور الشعور بالاستعلاء، لكنه وفي مقابل ذلك يضيف - أي القصيبي - ليس متواضعاً إذا كان معنى التواضع إخفاء مواهبه إرضاء لغير الموهوبين. وهنا روعة في اليقين وصون النفس عن التملق والاسترضاء فقد قابل بهذا السلوك استغناء عن الكذب الاجتماعي والثقافي، واستعلاء قيماً بالقيم النبيلة التي لا تأتي إلا من قوي أمين كما كان القصيبي غفر الله له، ولعل سلوك المالك هنا أيضاً مثار نقع موعده الوفاء ومسار سلوك للإعلام لأجيال الوطن/ الأمة بواحد من الأعلام.
* من اللمحات الجميلة التي ركز المالك عليها بإضاءات تحتاج إلى حزم ضوئية أكثر وهجاً منه وممن سيكتب عن القصيبي دراسة وتمحيصاً، إنشاء شركة سابك، قطب الصناعة العالمية وأم وعمة وخالة الصناعات البتروكيماوية في العالم، لا أريد هنا أن أتحدث عن الأهمية لها في قصب السبق في الصناعات الحيوية، ولكن في معنى ومغزى الاسم، فقد ربط الصناعة بالفكر والثقافة العربية من خلال الاسم، فالسبك والسباكة دون دخول في المصطلحات الصناعية واللغوية، هما دقة ربط وتشبيك المعادن باحترافية فنية، وبالسباكة في العصر الحديث تشير في إحدى معانيها إلى فنون تمديدات الماء والكهرباء وحديد التسليح في الإنشاءات المعمارية بهندسة تقنية وفكرية مبهرتين وسبك المعادن قريب من السمك، ولأن غازي شاعر أفلاك فربما استحضر قول جرير:
إن الذي سمَّك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
فاختار اسم سابك على وزن فاعل، فجاء الاسم على المسمى وأصبح اسماً عربياً محلقاً في عالم الصناعة العالمية، كانت الريادة فيها لغازي مهووساً بعربية التناغم والتفاعل والارتقاء وكما قال أبا بشار: لقد كان القصيبي موهوباً ومجدداً، وصانع قرار وهذه لمحة كبيرة ونطق رشيد ذي معاني كبيرة وجديرة بالتأمل والتداول مرابحاً ومصانعة واستثمارا.
شكراً للوفاء يا خالد المالك لسيد من سادات الزمان والمكان وشكراً لتحيتك له باسم الوطن ومعك يردد الوطن بأجياله: هل لنا أن نستنسخ تجربة غازي القصيبي، إدارياً وثقافياً، بأن يقدّم أكثر من مواطن صورة جميلة عن نفسه ووطنه وأمته، على النحو الذي كان عليه هذا الرمز الجميل.
* هنالك بعض اللمحات الأجمل ربما لم يسعف الوقت واللوعة بالفقد أبا بشار خالد المالك، وغيره من الذين كتبوا عن الراحل الفقيد غازي القصيبي، ولعل الإعجاب والانبهار من خالد بالقصيبي في مراحل العمل والعلاقة الحذرة بين الكبيرين حالت دون محطات أوسع سأفرد لها مقالاً مستقلا.
محمد ناصر الأسمري