الأديب والعالم والإداري والمسؤول جلهم يرغب من الناقد أن ينظر إلى الجزء المليء من كأسه وربما يتمنى أن يصحب تلك النظرة بكثير من التبجيل والمديح، فيسعد بما يراه مستحقاً له، أو ما يرغب أن يوصله إلى الآخرين مع علمه أنه غير مستحق له.
والنقاد ربما يختلفون في نظرتهم لعمل ما، طبقاً لمخزونهم الثقافي وطبيعتهم وقربهم من صاحب العمل ومقدار القرب والخوف والرجاء والمخزون الثقافي عامل مهم ومعول يستخدمه الناقد للحكم على العمل، وهذا المعول توجهه العوامل المؤثرة الأخرى.
وأذكر أن ناقداً لا يعرف إلا النقد وإظهار عيوب أي عمل كان، وقليلاً ما نجده يثني على عمل تم إنجازه، أو رؤية مستقبلية يمكن تحقيقها، ولعله يرى أنه بهذا يرغب في الحث على أن يكون الكأس مليئاً ليتحقق المراد، ولعله يرى أن الحديث عن الجزء المليء من الكأس إنما هو تحصيل حاصل، لذا فهو ينظر إلى الجزء الفارغ من الكأس، فمن المنطق في رأيه السعي لبلوغ التمام أو قرب ذلك، وليست القناعة بما تم بغض النظر عن نوعه ومقداره، ولعله ينتقده ليبحث عن مزيد من البذل والجهد ناظراً بعينه الأخرى إلى ما وصل إليه الآخرون من أدباء وعلماء وإداريين ومسؤولين من إنجاز جعل كؤوسهم تكاد تكون مليئة.
وقد تكون نظرته تلك نابعة من جبلة خلقه الله عليها، فهو لا يرى الكأس إلا فارغاً حتى وإن كان مليئاً حتى الثمالة، وهذا الناقد سيظل كذلك مستخدماً مقدار معوله الثقافي في تبرير قوله، وبمقدار كفاءة ذلك المعول يكون النقد أقسى وأشد وأقرب إلى تلمس الثغرات وتضخيمها ليكون أكثر هناء وبهجة وليس لتصحيح الواقع.
وناقد آخر لا يستخدم قلمه إلا للمديح والثناء والتبجيل والتقريض، فجل عطائه مديح إما بنثر و شعر، وقد يكون من خلال مقالة أو قصيدة أو كتاب، ومدحه ربما ينصب على شخص بذاته في صفاته الشخصية، وليس عمله الذي يحسن الناس وتستنير به أو تسقط في عثراته. وهذا النوع من النقاد ينتقلون كنحلة من زهرة إلى زهرة، بداع ربما يغشاه الكثير من الصدق، أو يعتريه بعض من المصلحة الذاتية، أو هي جبلة يسعد بأن يكون مداحاً حتى يكسب قلوب الممدوحين بغض النظر عن جلب مصلحة ذاتية.
والحقيقة أن النقد الهادف دون ابتذال أو هدم هو الأجدر بالاتباع، لاسيما في عالم أصبحت فيه وسائل الاتصال بالآخرين كثيرة وميسرة، فتصل الكلمة إلى عدد غير قليل من البشر.
ومع هذا فالنفس البشرية بما جبلت عليه من حب الخير للذات قد تأخذ بعين الاعتبار معطيات تمنعها من قول الحقيقة حتى وإن كانت فيها من الغايات النبيلة ما يستوجب البوح به، أن جزء الكأس فارغها ومليئها ستظل هدفاً للنقاد وسيظل التباين قائماً لكن ما يهم الناس جميعاً أن يكون الكأس مليئاً بغض النظر عما يقوله النقاد، أو ما يشتهيه صاحب العمل المستهدف، وإذا لم يكن مليئاً فيكون أقرب إلى ذلك، وليس بضع قطرات عند قاع الكأس.