يقول الله سبحانه في سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك2, جاء في تفسير ابن كثير: أي يختبركم، وفي (أيكم أحسن عملاً) يعني خير عملاً، كما قال محمد بن عجلان، ولم يقل أكثر عملاً (4:46).
وفي فتح البيان للسيد العلامة صديق بن حسن القنوجي، يقول: (ليبلوكم) أي ليعاملكم معاملة مَنْ يختبركم وإلا فعلمه محيط بكل شيء. قال الشهاب: الاختبار يقتضي عدم علم المختبِر (بالكسر) بحال المختَبَر (بالفتح)؛ فلهذا جعلوه استعارة تمثيلية أو تبعية على تشبيه حالهم في تكليفه تعالى لهم بتكاليفه، وخلق الموت والحياة لهم، وإثابته لهم وعقوبته، بحال المختبر مع من اختبره وجربه؛ لينظر طاعته، وعصيانه فيكرمه أو يهينه. (أيكم أحسن عملاً): فيجازيكم على ذلك. وقيل ليبلوكم ربكم أيكم أكثر ذكراً للموت، وأحسن استعداداً، وأشد خوفاً منه. وقيل: أيكم أحسن عقلاً، وأسرع إلى طاعة الله، وأورع عن محارمه. وقيل أخلص عملاً وأصوبه: والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنة. (فتح الباري في مقاصد القرآن 14:230).
فالله سبحانه يمتحن النفوس بالمصائب، ويختبر نقاوة جوهرها بالفتن، التي هي محك الإيمان، حتى يميز سبحانه الخبيث من الطيب، وحتى تظهر نفاسة المعدن بقدرة تحمله الشدائد، وثباته في مصارعة الأحداث، والصبر على البلواء.
ذلك أن من سنن الله الكونية، وحكمته سبحانه النافذة، أن يكون الابتلاء للنفوس قاعدة أساسية يبرز به نقاوة الجوهر، ومحكاً متميزاً تصقل به النفوس؛ ليبرز إيمانها، ويقوى صبرها وتحملها؛ حيث يقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت الآيتان 2-3).
وما ذلك إلا أن دلالة الفتنة، التي وردت في كتاب الله بمشتقاتها ما يقرب من ستين مرة، تعني ابتلاء النفوس، وامتحان صراعها الباطني بين حق يجب الخضوع له؛ لأنه من عند الله، ودعت إليه رسله، وباطل يجب البُعد عنه؛ لأنه منهج عدو الله الشيطان وأعوانه، الذين يدعون إليه بالمغريات. والطريق الأول محفوف بالمكاره، والثاني بالشهوات. ولكي تتميز القلوب بحسن الاتجاه والقناعة؛ حيث تنقاد لأحد الطريقين المذكورين عن معرفة وحسن إدراك، فإن الابتلاء هو المنعرج الذي تمتحن به النفوس، والأساس الذي يتميز به القدرة على التحمل.
فالإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه عقيدة وعمل، يؤصل العقيدة مواقف، ويمكّن منهج العمل أدوار، ولا منجى للنفس البشرية من كل ما يعترضها، ولا حماية مما قد يسلط على نزعاتها، إلا بقوة الإيمان، وبالصبر وإدراك ما يعنيه هذا الإيمان، من أهمية التوجيه للخير والتحذير من الشر، ثم بتصدي ولاة الأمر والعلماء لكل فتنة تظهر.
وميزان هذا الإيمان قوةً وضعفاً يرتبطُ بميل القلب للخير، وحب أهله والارتياح لعمله أداءً واعتقاداً، يقول صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض مثل الصفاء، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه» رواه مسلم في كتاب الإيمان. والفتن في تاريخ الإسلام كثيرة، ومن أعظمها فتنة (البساسيري) كما قال ابن كثير؛ ذلك أن الفتنة، التي هي ابتلاء وامتحان، تأتي على أنواع، ويمكن تقريبها للذهن بما يحصل للناس في حياتهم العلمية والعملية؛ إذ كل فرد منهم يُمتحن لمعرفة المكانة التي يستحقها تحملاً وقدرة، ونجاحاً أو خسارة؛ فالطالب يقوَّم إنتاجه العلمي بالاختبار، والمدرس تبرز حصيلته العلمية وقدرته الفنية بالأداء والنتيجة، والموظف يفاضل بينه وبين الزميل المنافس بمعايير اختبارية.. كل هذه تُعتبر فتناً شخصية صغيرة، إلا أن الأعظم ما كان في الدين، وهكذا غيرهم كالتاجر والصانع والمزارع والعامل، وكل ذي صنعة وحرفة، لا يمكن المفاضلة إلا بابتلاء في العمل، واختبار في المهنة، إلا أن ابتلاء الدنيا عند ذوي العقيدة الصافية هينة عليهم.
ومثلما أن التمييز بين الخبيث والطيب توضيح للسعادة من الشقاوة فإننا ندرك أن الفتنة منها ما يتعلق بالشبهات التي تطرأ، ومنها ما يتعلق برغبات النفوس وجنوحها، ومنها ما له رابطة بالمال والولد، ومنها ما يرتبط بالقلب، ومعرفة ما يحمله من إيمان أو شك، أو بأمور عديدة تمر في الحياة.
ولذا فإنه لا يمكن تمييز الخبيث من الطيب إلا بالابتلاء، ولا يمكن إدراك خفايا القلب، من إيمان صادق، أو نفاق فاضح، إلا بالابتلاء، كما لا يمكن معرفة صدق المحبة والولاء لله ولرسوله ولولاة الأمر إلا مع محك الابتلاء، كما أمر الله في أكثر من موضع في كتابه الكريم. وبرابطة الابتلاء عند المدركين يقوى الإيمان؛ فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالماً غير عالمنا بحياته المعهودة، ونكون في نشأة أخرى غير هذه النشأة، التي يتقلب فيها البشر.
ولا يتميز الضد إلا بالضد، ولا يحلو تذوق أمر من الأمور إلا بمطارحة نقيضه؛ ولذا كان دعاء كثير من الصالحين «اللهم أذقني حلاوة الإيمان»، وحقيقة هذه الحلاوة تتحقق وتتأصل في هذا الحديث الشريف: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً ورسولاً».
فمثلاً: لو كان المسلمون منصورين دائماً بدون جهد، وقاهرين غالبين لكل من يقف دون دعوتهم، وعيشهم رغد بدون منغصات، فإن من ليس قصده الدين سيدخل معهم؛ لينال من هذه النتائج، التي ترنو إليها النفوس، كما رأينا في قصص المنافقين، الذين فضحهم الله في القرآن الكريم، في كثير من الأعمال والأقوال؛ لأنهم يظاهرون رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً في المدينة، وسورة التوبة سماها بعض المفسرين «الفاضحة»؛ لأنها فضحت أعمال المنافقين، وما أحدثوا من فتن.
ولو كان المسلمون مقهورين مغلوبين دائماً؛ حيث يدخر الله أجرهم لهم في الآخرة، ويثابون على صبرهم، فإن ذوي النفوس الضعيفة، ومن كان ينظر أولاً لما هو محسوس وعاجل الثمرة، لن يدخلوا مع المسلمين في دينهم، وستبقى الفئة المؤمنة بربها قليلة مستضعفة.
ولكن حكمة الله البالغة، وإرادته النافذة، اقتضت أن يكون للفئة المؤمنة الدولة تارة، وعليهم الغلبة تارة أخرى.. كما حصل في مواقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم والفئات المؤمنة معه، وهذا من امتحان الله لذوي القلوب النيّرة المؤمنة الصادقة، وفي كل زمان ومكان تمر بالمسلمين حوادث يتميز بها الصادق من الكاذب، وتكبر معالم الإيمان بدلائله أمام تضاؤل النفاق ودعاته، ولكن أهم ما يجب أن يتحلى به المؤمن الدعاء مع الصبر والاحتساب {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} النساء 104.