شدني رسم كاريكاتوري للزميل الفنان «الماضي» حول احتمال تحول الراتب الشهري إلى قائمة من البدلات التي لا تنتهي، نتيجة الاستماتة في ثبات سلم الرواتب رغم تغير الأحوال الاقتصادية وتصاعد أسعار السلع والخدمات، طارحا إيحاءات من الأسئلة وأصعبها وأكثرها حفراً في العمق والوجدان تلك التي ترتسم على الملامح دون تصريح.
والحق أن وضع الرواتب والمعاشات الشهرية أمام مستجدات الاقتصاد والاستهلاك تثير الشجن والألم، فقد أصبح ثبات سلم المرتبات الحكومية أشبه ما يكون بالبقرة المقدسة لدى الهندوس فكل شيء قابل للتغير والتصحيح ماعدا قدسية تلك البهيمة لدى بعض البشر المصرين بعناد على تعطيل العيون عن الإبصار والعقول عن التفكير, وإلا فإن قيمة الريال السعودي قد انخفضت خلال العقدين الماضيين بنسبة كبيرة فيما زادت قيم السلع لتضيف مزيداً من النهش في قيمته، وإذا كان الارتباط بالدولار قد حفظ قيمة الريال في ظله فقد عجز عن حفظ قيمته السوقية خارج منتجاته، وهو أي الدولار وقد تهاوي أمام العملات الأخرى، ترغب الإدارة الأمريكية في مزيد من «شيطنته» أمام العملات الأخرى وربما هذا شأنها، لكن ما مصلحتنا نحن في مزيد من تهاوي الريال وترنحه؟ فقد بتنا نشاهد مشاريع بأرقام في خانة المليار في حين أن المشروع ذاته كان ينفذ في وقت مضى بأرقام المليون وكان يعد رقماً كبيراً في حينه، والمركبة التي كانت تشترى بمائة ألف ريال صارت اليوم بأربعمائة ألف ريال، بل حتى موازنتنا العامة توشك هي الأخرى الدخول إلى نادي «التريليون» دون أن نستشعر قوة هذه الأرقام أو نرى انعكاسها على حال الفرد الاقتصادية والمعيشية، فقد بقيت المرتبات الحكومية كما هي واستعيض عن انخفاض قيمته الشرائية بالبدلات والتعويضات «الوهمية» لكنها تصرف في الغالب لذوي المراتب العليا والممتازة، وبقي صغار الموظفين ممن لا يحضون بقدرة على لي وعصر بنود المصروفات على مرتباتهم التي لم تعد كافية لمواجهة الاحتياجات لأكثر من عشرة أيام، تزيد أو تنقص قليلا، ولم يكن بدل الغلاء الذي ساواهم بذوي المراتب العليا إلا بمثابة نهش مضاف لرواتبهم وربما ثغرة تنفذ من خلالها حاجة شرهة لرسوم أو مخالفات جديدة أو انتهازية تجار ما زالوا يعيشون في سحر الطفرة.
من الخطأ الذي لاشك فيه زيادة المرتبات بأي نسبة كانت، وهو ما تحاشته وزارة المالية من خلال دفع بدل الغلاء، لكن البقاء والاستمرار على الوضع الحالي لسعر الريال قد يلجئنا مرة أخرى لإدخال بدلات جديدة، ثم إن تراجع قيمة الرواتب المستمر في سوق مفتوح على مصراعيه للإنتاج والاستهلاك سيولد لدينا ويعمق كثير من القضايا والمآسي الاجتماعية التي ستلح على الجهات المختصة بمزيد من الصرف لمواجهتها وهو ما سيزيد من حرق الموارد في معالجة أخطاء نراها ونتحدث عنها، دون أن نجد مؤشرات حقيقية للاهتمام من قبل وزارة المالية ووزارة التخطيط والاقتصادي الوطني لنتائج الأخطاء السابقة، تلك التي أظهرت لنا اليوم قضية البطالة والفقر, ولا يصح أبدا رد ذلك إلى حالة النمو بجميع فروعه، فهذا أمر مفروغ منه بحكم طبيعة الحياة وقاعدة التكاثر والتراكم، ولكن لعله البطء والتريث وثقل وطأة التحفظ في مواجهة المشاكل بالحلول الخلاقة والمبدعة التي تتطلب جرأة وشجاعة ومرونة واستعداد لتحمل التبعات باحتوائها واختيار انسب المعالجات والبدائل لمواجهتها.
لاشك أن لمشكلة فك الارتباط بالدولار أو إعادة تسعير الريال من التعقيدات الاقتصادية والسياسية وغيرها ما يجعل التريث والتحفظ على قاعدة لعل وعسى أن نخرج بأقل الخسائر, وهو أمر تستطيع تحمله الحكومة وتقدر عليه ولكن على حساب مشاكل وقضايا اجتماعية وفكرية هي أشد خطورة وأقسى من الخسائر المالية، وكأننا أمام راكض في محيط دائرة يبحث عن نقطة الانطلاق الصحيحة، ولست أدري إلى متى؟ وإلى متى يمكن للمواطن أن يتحمل؟ ثم لماذا لا نضحي بخسارة تصحيحية في رقم الاحتياطات المالية مقابل تدارك مزيد من الخسائر الاجتماعية والفكرية للمواطنين، من خلال شق الجرح وإعادة تضميده عن طريق إعادة تسعير الريال مقابل الدولار الأمريكي المثخن بالأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية أخيراً، ولعلنا نستطيع تعويض خسائر احتياطياتنا المالية بتخصيص هامش في أسعار النفط لتغطية تلك الخسائر طالما كنا مصرين على هذا الارتباط (الكاثوليكي المقدس) مع هذا الدولار الشقي.