لا يكفي أن يكون الإنسان مليح القسمات، حسن الملامح، ظريف الهيئة حتى يحكم عليه بالخيرية ! بل المعيار في هذا هو جمال الخلق وعذوبة النفس وحلاوة الروح، تؤلمه مواقف الشقاء وتزعجه مناظر البؤس، ولا يتمايز البشر ولا يعرف نضج عقولهم إلا في حال الأزمات! ومن خير الأزمات الفاحصة والمنعطفات الكاشفة لمعادن الإنسان والتي يحكم من خلالها على نبل أخلاقه وسمو روحه وحاله عندما يزل ويعثر في كلمة أو سلوك، ومدى استعداده بعد ذلك للعودة بعد الخطأ والاعتذار لمن أخطأ عليه!
فكم من زوج نال من زوجته وربما اعتدى عليها، ومع هذا لاتجده يقدم بين يدي جرمه كلمة يطيب بها خاطرها!
وكم صديق آذى صديقه بكلمة جارحة أو بسلوك شائن أو بظن سيء وبعد أن تنكشف له الحقيقة يستكثر عليه كلمة آسف!!
وكم مدير تسلط على موظف فرفع عليه صوته وجرح مشاعره وعندما تبين له سوء فعلته كابر ولم يعتذر!
وربما كان حال هؤلاء المعتدى عليهم بعد الظلم الذي وقع عليهم مما ترق لها الأكباد الغليظة، وتلين لها القلوب القاسية، ويبكي لها الحجر الأصم ومع ذلك ترى من أخطأ عليهم لم يتحرك له ساكن ولم ينبض له قلب!!
ليس من البشر من هو معصوم وصدور الأخطاء منهم أمر لا مفر منه فنحن جميعا معرضون للزلل ومطاوعة الهوى والانهزام أمام الانفعالات السيئة وحظوظ النفس، لذا لا أحد في مأمن من الخطأ !ولكن ماذا بعد الخطأ هل يتحمل الإنسان المسؤولية ويتسامى ويعتذر؟
إنها لغة العظماء
تأمل في لغة الاعتراف عند أفضل البشر (الأنبياء) والتي تحمل في طياتها اعتذارا صريحا ورجوعا للحق جليا رفع الله بتلك الأخلاق من قدرهم وزكاهم :
فقد اعتذر أبونا ادم وأمنا حواء بقولهم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
ونبي الله موسى بعد ما قتل القبطي قال: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ }.
وذو النون يونس عندما حاد عن الصواب استرجع وقال: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }، وما التوبة إلا التعبير الأسمى والأجمل عن (فضيلة الاعتذار).
فقط في الدول المتحضرة
في الدول المتحضرة عندما تحل كارثة وتلم مصيبة تجد الوزير المسؤول يخرج على الملأ منيبا متأسفا معتذرا ثم بعد ذلك يقدم استقالته تكفيرا عن ذنبه وتعبيرا عن فداحة خطأه أما عندنا فللأسف لدينا كفاءة عالية في التبرير وقدرة عجيبة على تهوين الأمور وتحميل الغير المسؤولية ! حكومات تتهرب، ووزراء يراوغون، ودول تتنصل ورموز تكابر بعد أوغلوا في الخطأ وتجلى سقم تصرفاتهم ومع هذا لايزالون في غيهم سادرين!
فما أجمل أن نقوم بعمليات مراجعة لتصرفاتنا نتلمس الأخطاء ونضع اليد عليها ونتحلى بأخلاق الأبطال حيث فضيلة الاعتراف والتراجع والاعتذار عن الخطأ؟
لمن تعتذر؟
ليس شرفا أن يعتذر الإنسان لمديره في العمل أو لمن هو أعلى مكانة وأرفع قدرا لكن الفضل والمجد هو في حسن التعامل مع الضعفاء، وأداء حقوقهم، والتزام مكارم الأخلاق تجاههم فتعتذر لمن لا يدا له يدفع بها الظلم ولا يملك لسانا سليطا يعيد به الحق المسلوب وقد وجد حرارة الظلم، ومسه لفحه وأصلى ضلوعه.
وصاحب القلب الكبير، نبيل النفس هو الذي يتحمل مسؤولية تلك الأوجاع النفسية التي سببها للآخرين فلا يقرّ له قرار ولا يهنأ له عيش ولا يهدأ له بال ولا يرقى له دمع حتى يعيد الأمور إلى نصابها.
في الأسبوع القادم سأواصل الحديث عن تلك الفضيلة فكونوا معي
ومضة قلم
إنها القرارات البسيطة التي نتخذها أنا وأنت، هي التي تصنع مصائرنا