على الشاطئ الأميركي الغربي في الثمانينيات الميلادية، كان مستراحُنا جلساتِ «الكافيتريا» تفصل بين دروس معهد اللغة المملة، وكان هاجس الإتقان «الوهمي» قد ملأَ فضاء الذات المتورمة؛ فتباطأُنا في الانتظام، وربما اقترحنا مطعمًا مجاورًا لنكمل الحديث العذب، وقطباه صاحبكم وصديقه القطري «أبو طلال»، والناتج إنذاران باذخان لكلينا؛ فإما الالتزام الكامل أو الاستبعاد الفوري، وقضى الله أن يتغيّب المخرج التلفزيوني الجميل فيفصل، ثم نتيه في تفاصيل الحياة التي نتصوّر فيها ألا افتراق؛ فإذا نحن نستعيد حكاية مالك ومتمم ابني نويرة:
«وكنا كندمانَيْ جُذيمة حقبةً
من الدهرِ حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكًا
لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا»
كذا هي الحياة تعد وتئد، وتجمع وتمنع، وتُسعد وتُبعد، وكان لنا أحبةٌ توهمنا أننا نسكنهم كما يسكنوننا، وتمضي الأيام فلا تجود حتى بسلام فضلاً عن كلام.
كان «محمد» يقول: إن أشد معاناته تجيءُ وقت طرحِ السؤال النمطي: «من أين أنت»، وحين أجيب: من «قطر»؛ تتوالى الأسئلة: ماذا وأين، ويعييني الشرحُ فلا يفهمون، ووجدتُ - كما يروي - الحل في الانتماء للسعودية فلا أتعب ولا يتعبون.
لو قابله صاحبُكم اليوم، (وليت؛ فقد كان إنسانا مضيئًا) فلن يحتاج لمعرفة إجابته عن استفهام الأمس؛ فقطر - بعد قناة الجزيرة وكأس العالم - علامةٌ على ما يصنعه الإعلام «الجماهيري» من نقلاتٍ ثورية في المكان والإمكان والمكانة؛ ولهذه الثلاث ما يوازيها في مصطلحات الفضاء الذي يحتوينا سمعًا وبصرًا؛ ليجعل تجربةً محدودة تتصاعدُ في مدًى ممدود.
لم يعد «المكانُ» حدًا جغرافيًا، وليس «الإمكانُ» مرتهنًا لثروةٍ مادية، ولا تُجلب «المكانةُ» بدعايةٍ مباشرة، ومنذ القدم ومنظرو الإعلام يتحدثون عن تأثير «الW.O.M» «- أو نظرية التناقل الشفاهي - التي تتفوّق على كل المزادات والمزايدات، وقد قال الأوائل: «ليس راءٍ كمن سمع».
وفي موقفنا عند نقل أحد المؤتمرات العالمية من الرياض لدبي مثالٌ وعبرة؛ إذ كان شبابُ معهد الإدارة هم المنظمين والمشرفين والمنفذين وصانعي الحدث ومخرجيه، وبعدما انفض السامر كتبت الصحف هناك: إن الصين سوف تستفيد من التجربة الإماراتية الناجحة في المؤتمر، وكدنا نبكي؛ فنحن المعدون والمقدمون، والأولون والآخِرون، ولكننا أغفلنا الخطوة الأخيرة اليسيرة وهي «الاستضافة» - في أثناء المد الأحادي - فاستثمرها الأشقاء وحق لهم؛ فسبقوا ونحن متفرجون.
للإعلام المحترف جاذبية ٌ خاصة؛ فهو لا يأتيك من بابٍ تألفه فتستطيع رؤية ثقوبه وعيوبه، كما لا يملي عليك معلقات الثناء بكرةً وعشيا حتى تأنف من الدخول عبر الباب المطبوع لا المصنوع، ويؤلمك أن تدرك الحقيقة فلا تسمعها، وتعرف الصحيح فلا تبلغه، وتجد المجالس المغلقة ملأى بالمصارحة؛ فإذا برقت «الفلاشات» اعتمرنا الترديد والتنديد والمبالغة.
نجاح دولة خليجية أو عربية أو مسلمةٍ «غير شعوبية» هو نجاحٌ لنا، وفرحنا بإنجازاتها شعورٌ صادق؛ فالأمل واحد كما الهم والجرح واحد، ولدينا الكثير مما نفخر به، دون أن يعوقنا عن تلمس الخلل وقراءة الغد وإشراك مؤسسات المجتمع المدني في اتخاذ القرارات.
سئم الناسُ الحوارات المؤدلجة، وملُوا لعبة «الشيخ والليبرالي»، وربما أضاءوا بانفتاح «البراغماتي» وسعيِه لكسب الرهان نحو التفوق بمنأى عن الادعاء والاختباء.
المستقبل للتحليق لا للتعليق.