دائماً ما نسلط الضوء ونحتفي بالأشخاص المبدعين بعد رحيلهم، نستمتع بعطائهم وهم على قيد الحياة ولا نلتفت لمسألة تكريمهم أو حتى شكرهم، ثم ما أن يرحل أحدهم حتى نبدأ برثائه بوسائل الإعلام وتكريم ذلك العطاء في أي مناسبة وبأي وقت.
المفكرون، المبدعون، المميزون، المكافحون، جميعهم يملكون قدرات لا يملكها الإنسان العادي جعلت منهم أشخاصاً استثنائيين، وحملهُم جهدهم ذلك إلى طليعة أقرانهم، فأناروا دروب الناس وأراحوا الكثير ووفروا للكثير أسباب التنافس الإبداعي والثقافي والاجتماعي والعلمي والديني والصحي وخلصوا الكثير من الجهل والتخلف وقدموا أدوات صناعة الإنسان القادر القوي وذلك على جميع الأصعدة وفي شتى المجالات، ضحوا كثيراً براحتهم وتعبوا واجتهدوا من أجل إبداعهم، وأهملوا في أغلب الأحيان صحتهم من أجل إبراز قدراتهم، كثير منهم من فتح بيته لاستقبال الناس لنهل العلم والمعرفة منه، وكثير منهم تحمل مشقة السفر والترحال لنشر علمه ومعرفته، بل كثير منهم هجر أسرته وتفرغ لمجالسة الناس.
هؤلاء المميزون برزوا من خلال عطاء لا يقارن في مجالات عدة، ونشروا العلم والمعرفة في شتى المجالات، في المجال الديني، والاجتماعي، والطبي، والعلمي، والفني، وغيره كثير، لم يمنعهم بروزهم ذلك من التوقف بل استمروا في العطاء حتى آخر رمق وآخر نفس في حياتهم إلا أن توفاهم الله.
تركوا خلفهم إرثا لا يمكن أن يتركه أناس عاديون، بل ترك بعضهم علوماً باتت تدرس لأجيال كثيرة متعاقبة، أصبح كثير منهم مرجعاً في علمه أو عمله، وأصبح الناس يتداولون اسمه والعودة لسيرته، وأصبحت سيرته تلك تُذكر في المجالس ودور العلم ويُفرد لها المقالات وتؤلف عنها الكتب.
المبدع أو المميز أياً كان لا يستطيع أن يستمر في دفقه لإبداعه إن لم يشعر أن ثمة حاجة لما ينتجه أو أن إنتاجه ذلك لن يكون له نفع وبصمة على الأجيال القادمة، المبدع أيضاً لا يستطيع أن يستمر في العطاء ما لم يكن لديه ما يعينه على ذلك، حتى ولو الكلمة الطيبة، وليس في ذلك أهداف عند المبدع أياً كان أن يطلب تلك الكلمة التي يحتاجها، والتي تمده بالروح وتحفزه أكثر من أجل أن يبدع في مجاله، ولكي ينتج تقدماً ما لأمته قد تعيشه في حاضره وحياته أو بعد غيابه ومماته. لا يريد المبدع مالاً ولا سلطاناً، فقط كلمة طيبة يشعر من خلالها أنه لم يُضع وقته سدى حين كان يسهر الليالي الطوال في العمل سواءً كان تأليفاً أو ترجمة أو بحثاً علمياً أو تحقيقاً بغية نشر نور المعرفة بين الناس، لا يريد المميز أو المبدع أن يعيش حالة الجحود والنكران من مجتمعه الذي يعمل ليل نهار له، لا يريد المبدع أو المجتهد أن يتمتع الناس بعلمه دون تقديم كلمة طيبة بحقه، لا يريد المبدع أن يتناساه الناس ويستفيدوا وينهلوا مما أنتج وعمل، لا يريد المبدع أن يأخذ أجر ما عمل وأبدع، جُل ما يريده هو كلمة طيبة تحفيزية يعلم من خلالها أنه قد حصل على مقابل لعمله وعلمه، وأن ما قدمه من خدمة جليلة للأمة لم يضع هباءً منثوراً وأن هناك من يُقدر ويشكر عمله أو علمه.
لم تُكتب الحضارات وتنهض بشتى علومها وآدابها ودينها وفنونها إلا من خلال فئة من الناس أظهرت عبقريتها وتميزها عن الآخرين، وتواريخ الأمم ما كانت لتخطه إلا أقلام أولئك الأفذاذ الذين أناروا بضوء عيونهم دروب الإنسانية الظلماء، وكتبوا بمداد قلوبهم قصة الحق والخير والجمال، ونكران هؤلاء إنما هو نكران القيم النبيلة كلها، وجحود للعطاء النقي، واضمحلال لحياة الأمم التي لا تحيا ولا تسمو ولا تخلد إلا بهم.
حتى أولئك الذين في طريقهم للإبداع وإنارة ما تبقى من الظلمة ونثر إشعاع علمهم وعملهم في شتى ميادين الحياة، يشعرون أيضاً بسعادة غامرة حينما تُقدم كلمة طيبة للمبدعين الذين سبقوهم وما زالوا هم يسيرون على خطاهم، فيحفزهم ذلك على بذل المزيد من الجهد والعمل في سبيل اللحاق بمن سبقهم ونيل ما نالوه من كلمات تحفيزية أظهرت واقع الأمة التي تُقدر أبناءها المميزين والمبدعين.
لماذا لا نعمل على تنظيم مناسبة سنوية يتم تكريم المبدعين فيها في جميع المجالات دون استثناء؟ أليس في تكريمهم أحياءً وليس أمواتاً إسعادًا لهم؟ أليس في تكريمهم وفاءً لعطائهم المميز؟ أليس في تكريم المبدعين والمميزين، تقديم صورة من صور التقدير والعرفان بفضلهم؟ ألا يحفز ذلك غيرهم على العمل والإبداع والتميز؟
(كلمة مديح تقال لي خير من ألف كتاب يكتب عنّي بعد موتي) بهذه العبارة لخّص بودلير قصة العظماء على مر التاريخ، وحقيقة ما يريدونه في الحياة.
إلى لقاء قادم إن كتب الله.